كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 8)

صفحة رقم 65
فيشكره إذا أنعم ، ويصبر إن امتحن وانتقم ، ويخدمه بما أمر وينزجر عما هنه زجره ، فهذه الآية مشتملة على وجود المقتضي للسعادة وانتفاء المانع منها ووجود المقتضي إعداد وإرشاد ، فالإعداد إعانته سبحانه للعبد بإعداده لقبول السعادة كالحداد يلين الحديد بالنار ليقبل أن يكون سكيناً ، والإرشاد أخذه بالناصية إلى ما أعد له كالضرب بالسكين وإصلاحها للقطع بها ، وانتفاء المانع هو الموقف عن ذلك وهو دفع المشوشات والمفسدات كتثلم السكين وهو يجري السبب وسبب السبب ، وهو ما اشتمل عليه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم أعني ولا تعن عليّ ) الحديث ، فذكره لتمام القدرة والعزة مع ذكر الأحسن دال على توفيقه بما ذكرن ومن تأمل لآية عرف أنه ما خلق لا ليتميز جوهره من صدق غيره أو صدق غيره ، وأن الدنيا مزروعة ، وأن الآخرة محصدة ، فيصير من نفسه على بصيرة ، وثارت إرادته لما خلق له تارة بالنظر إلى جمال ربه من حسن وإحسان ، وأخرى إلى جلاله من قدرة وإمكان ، وتارة بالنظر لنفسه بالشفقة عليها من خزي الحرمان ، فيجتهد في رضا ربه وصلاح نفسه خوفاً من عاقبة هذه البلوى .
ولما كان لا يغفل الابتلاء منا إلا جاهل بالعواقب وعاجز عن رد المسيء عن إساءته وجعله محسناً من أول نشأته ، قال نافياً لذلك عن منيع جنابه بعد أن نفاه بلطيف تدبيره وعظيم أمره في خلق الموت والحياة ، ومزيلاً بوصف العزة لما قد يقوله من يكون قوي الهمة : أنا لا أحتاج إلى تعب كبير في الوصول إليه سبحانه بل أصل إليه أي وقت شئت بأيسر سعي ) العزيز ) أي الذي يصعب الوصول إليه جداً ، من العزاز وهو المكان الوعر والذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ، فلو أراد جعل الكل محسنين ، ولا يكون كذلك إلا وهو تام القدرة فيلزم تمام العلم والوحدانية ووجوب الوجود أزلاً وأبداً .
ولما كان العزيز منا يهلك كل من خالفه غذا علم مخالفته ، قال مبيناً إمهاله للعصاة مرغباً للمسيء في التوبة ، بعد ترهيبه من الإصرار على الحوبة ، لأنه قد يكون مزدرئاً لنفسه قائلاً : إن مثلي لا يصلح للخدمة لما لي من الذنوب القاطعة وأين التراب من رب الأرباب ) الغفور ) أي أنه مع ذلك يفعل في محو الذنوب عيناً وأثراً فعل المبالغ في ذلك ويتلقى من أقبل إليه أحسن تلق كما قال تعالى في الحديث القدسي ( ومن أتاني يمشي أتيته هرولة )

الصفحة 65