كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 8)

صفحة رقم 76
ولما كان ذلك أمراً غامضاً ، دل عليه بأمر مشاهد أبدعه بلطفه وأتقنه بخبرته لاستدعاء الشكر من عباده على ما أبدع لهم ومن عليهم به من النعم الباهرة التي بها قوامهم ، ولولاه لما كان لهم بقاء فقال مستأنفاً : ( الأرض ( على سعتها وعظمها وجزونة كثير منها ) ذلولاً ) أي مسخرة لا تمتنع ، قابلة للانقياد لما تريدون منها من مشي وإنباط مياه وزرع حبوب وغرس أشجار وغير ذلك غاية الانقياد ، بما تفهمه صيغة المبالغة مع أن فيها أماكن خوارة تسوخ فيها الأرجل ويغوص فيها ما خالطها ، ومواضع مشتبكة بالأشجار يتعذر أو يتعسر سلوكها ، وأماكن ملأى سباعاً وحيات وغير ذلك من الموانع ، وأماكن هي جبال شاهقة إما يتعذر سلوكها كجبل السد بيننا وبين ياجوج وماجوج ، ورد في الحديث أنه تزلق عليه الأرجل ولا تثبت ، أو يشق سلوكها ، ومواطن هي بحور عذبة أو ملحة فلو شاء لجعلها كلها كذلك ليكون بحيث لا يمكن الانتفاع بها ، فما قسمها إلى سهول وجبال وبرور وبحور وأنهار وعيون وملح وعذب وزرع وشجر وتراب وحجر ورمال ومدر وغير ذلك إلا لحكمة بالغة وقدرة باهرة ، لتكون قابلة لجميع ما تريدون منها ، صالحة لسائر ما ينفعكم فيها .
ولما كان معنى التذليل ما تقدم ، سبب عنه قوله تمثيلاً لغرض التذليل لأن منكبي البعير وملتقاهما من الغاربين أرق شيء وأنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه : ( فامشوا ) أي الهوينا مكتسبين وغير مكتسبين إن شئتم من غير صعوبة توجب لكم وثباً أو حبواً ) في مناكبها ) أي أماكنها التي هي لولا تسهيلنا لمناكب الحيوانات لكانوا ينتكبون عن الوقوف عليها ، فكيف بالمشي ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إنها الجبال - لأن تذليلها أدل دليل على تذليل غيرها ، وليكن مشيتكم فيها وتصرفكم بذل وإخبات وسكون استصغاراً لأنفسكم وشكراً لمن سخر لكم ذلك - والله الهادي .
ولما ذكر سبحانه أنه يسرها للمشي ، ذكرهم بأنه سهلها لإخراج الخيرات والبركات فقال : ( وكلوا ( ودل على أن الرزق فوق الكفاية بقوله : ( من رزقه ) أي الذي أودعه لكم فيها وأمكنكم من إخراجه بضد ما تعرفون من أحوالكم فإن الدفن في الأرض مما يفسد المدفون ويحيله غلى جوهرها كما يكون لمن قبرتموه فيها ، ومع ذلك فأنتم تدفنون الحب وغيره مما ينفعكم فيخرجه لكم سبحانه على أحسن ما تريدون ويخرج لكم من الأقوات والفواكه والأدهان والملابس ما تعلمون ، وكذل النفوس هي صعبة كالجبال وإن قدتها للخير انقادت لك كما قيل ( هي النفس ما عودتها تتعود ) .
ولما كان التقدير للبعث على الشكر والتحذير من الكفر : وابعدوه جزاء على

الصفحة 76