كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 8)
صفحة رقم 79
ولما كان هذا التكذيب لم يعم الماضين بعض فقال : ( من قبلهم ( يعني كفار الأمم الماضية .
ولما كان سبحانه قد أملى لهم ثم أخذهم بعد طول الحلم أخذاً بقيت أخباره ، ولم تندرس إلى الآن على تمادي الزمان آثاره ، فكان بحيث يسأل عنه لعظم أحواله ، وشدة زلازله وفظاعة أهواله ، سبب عن ذلك قوله منبهاً على استحضار ذلك العذاب ولو بالسؤال عنه : ( فكيف كان نكير ) أي إنكاري عليهم بما أصبتهم به من العذاب في تمكن كونه وهول أمره ، فقد جمع غلى التسلية غاية التهديد .
ولما ذكر بمصارع الأولين ، وكان التذكير بالحاصب تذكيراً لقريش بما حصب به على قرب الزمان عدوهم أصحاب الفيل بما أرسل عليهم من الطير الأبابيل تحذيراً لهم من ذلك إن تمادوا على كفره ، ولم ينقادوا إلى شكره ، فكان التقدير تقريراً رحمانيته أمر معاشها تقريراً لأن بيده الملك وترهيباً من أن ينازعه أحد في تدبيره مع تبقية القول مصروفاً عن خطابهم ، إيذاناً بشدة حسابهم وسوء منقلبهم ومآبهم ؛ ألم يروا إلى قدرتنا على مصارع الأولين وإهلاك المكذبين وإنجاء المؤمنين ، عطف قوله معرضاً عنهم زيادة في الإنذار بالحصب من الطير وغيرها : ( أو لم يروا ( وأجمع القراء على القراءة هنا بالغيب لأن السياق للرد على المكذبين بخلاف ما في النحل .
وأشار إلى بعد الغاية بحرف النهاية فقال : ( إلى الطير ( وهو جمع طائر .
ولما كان الجو كله مباحاً للطيران نزع الجار فقال : ( فوقهم ( وبين حال الطير في الفوقية بقوله واصفاً لها بالتأنيث إشارة إلى ضعفها في أنفسها لولا تقويته لها ) صافات ) أي باسطات أجنحتها تمدها غاية المد بحيث تصير مستوية لا اعوداج فيها مع أنه إذا كان جماعة منها كانت صفوفاً أو صفاً واحداً في غاية الانتظام تابعة لإمام منها .
ولما عبر عن الصف بالاسم لأنه الأصل الثابت ، عبر عن التحريك بالفعل لأن الطيران في ساحة الهواء كالسباحة في باحة الماء ، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها ، والبقض طارئ على البسط فقال : ( ويقبضن ) أي يوقعن قبض الأجنحة وبسطها وقتاً بعد وقت للاستراحة والاستظهار به على السبح في الهواء .
ولما تم هذا التقدير على هذا الوجه الرائع للقلوب ترجمه بقوله : ( ما يمسكهن ) أي في الجو في حال القبض والبسط عن السقوط على خلاف ما يقتضيه الطبع .
ولما كان هذا من التدبير المحكم الناظر إلى عموم الرحمة قال : ( إلا الرحمن ) أي الملك الذي رحمته عامة لكل شيء بأن هيأهن - بعد أن أفاض عليهن رحمة الإيجاد -