كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 8)

صفحة رقم 81
ولما كانت المراتب متضائلة عن جنابه متكثرة جداً ، قال تعالى مشيراً بالحرف والظرف إلى ذلك منبهاً على ظهوره سبحانه فوق كل شيء ، لم يقدر أحد ولا يقدر أن ينازعه في ذلك ولا في أنه مستغرق لكل ما دونه من المراتب : ( من دون الرحمن ( إن أرسل عليكم عذابه ، وأظهر ولم يضمر بعثاً على استحضار ما له من شمول الرحمة ، وتلويحاً إلى التهديد بأنه لو قطعها عن أحد ممن أوجده عمه الغضب كله ، ولذلك قال مستنتجاً عنه تنبيهاً على أن رفع المضار وجمع المسار ليس إلا بيده لأنه المختص بالملك : ( إن ) أي ما ، وأبرز الضمير تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف ومواصفة بذلك لأنه أقعد في التوبيخ فقال : ( الكافرون ) أي العريقون في الكفر وهم من يموت عليه ) إلا في غرور ) أي قد أحاط بهم فلا خلاص لهم منه وهو أنهم يعتمدون على غير معتمد .
ولما قدم أعظم الرحمة بالحياطة والنصرة الموجبة للبقاء ، أتبعه ما يتم به البقاء فقال : ( أمّن ( وأشار إلى القرب بالعلم والبعد بالعلو والعظمة بقوله : ( هذا ( وأشار إلى معرفة كل أحد له بصفاته العلية التي تنشأ عنها أفعاله المحكمة السنية ، فقال : ( الذي ( وأسقط لتحمل الفعل له فقال : ( يرزقكم ) أي على سبيل التجدد والاستمرار ، لا ينقطع معروفه أبداً مع أنه قد وسع كل شيء ولا غفلة له عن شيء ) إن أمسك رزقه ( بإمساك الأسباب التي تنشأ عنها ويكون وصوله إليكم منها كالمطر ، ولو كان الرزق موجوداً أو كثيراً وسهل التناول فوضع الأكلة في فمه فأمسك الله عنه قوة الازدراء عجز أهل السموات والأرض عن أن يسوغوه تلك اللقمة .
ولما قامت بهذا دلائل قدرته وشمول علمه على سبيل العموم فالخصوص ، فكان ذلك مظنة أن يرجع الجاحد ويخجل المعاند ، ويعلم الجاهل ويتنبه الغافل ، فكان موضع أن يقال : هل رجعوا عن تكذيبهم ، عطف عليه قوله لافتاً الكلام إلى الغيبة إعراضاً عنهم تنبيهاً على سقوط منزلتهم وسوء أفهامهم وقوة غفلتهم : ( بل لجوا ) أي تمادوا سفاهة لا احتياطاً وشجاعة ، قال الرازي في اللوامع : اواللجاج تقحم الأمر مع كثرة الصوارف عنه ) في عتو ) أي مظروفين لعناد وتكبر عن الحق وخروج غلى فاحش الفساد ) ونفور ) أي شراد عن حسن النظر والاستماع ، دعا إليه الطباع ، واستولى ذلك عليهم حتى أحاط بهم مع أنه لا قوة لأحد منهم في جلب سار ولا دفع ضار ، والداعي إلى ذلك الشهوة والغضب .
ولما كان هذا فعل من لا بصر له ولا بصيرة ، سبب عنه قوله ممثلاً للموحد والشمرك بسالكين ولدينيهما بمسلكين : ( أفمن يمشي ) أي على وجه الاستمرار

الصفحة 81