كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 8)

صفحة رقم 82
) مكباً ) أي داخلاً بنفسه في اكب وصارا إليه ، وهو السقوط ) على وجهه ( وهو كناية عن السير على رسم مجهول وأثر معوج معلول ، على غيره عادة العقلاء لخلل في أعضائه ، واضطراب في عقله ورأيه ، فهو كل حين يعثر فيخر على وجهه ، لأنه لعدم نظره يمشي في أصعب الأماكن لإمالة الهوى له عن المنهج المسلموك ، وغلبة الجهل عليه فهو بحيث لا يكون تكرار المشاق عليه زاجراً له عن السبب الموقع له فيه ، ولم يسم سبحانه وتعالى ممشاه طريقاً لأنه لا يستحق ذلك .
ولما كان ربما صادف السهل لا عن بصيرة بل اتفاقاً قال : ( أهدى ) أي أشد هداية ) أمّن يمشي ( دائماً مستمراً ) سوياً ( قائماً رافعاً رأسه ناصباً وجه سالماً من العثار لأنه لانتصابه يبصر ما أمامه وما عن يمينه وما عن شماله ) على صراط ) أي طريق موطأ واسع مسلوك سهل قويم ) مستقيم ) أي هو في غاية القوم ، هذا مثل من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً فإنه يتبع الفطرة الأولى السليمة عن شهوة أو غضب أو شائبة حظ ، والأول مثل الكافر ، حاله في سيره إلى الله حال المكب أي كب نفسه بغاية الشهوة على وجهه ، لا يرى ما حوله ولا يشعر بما أحاط به ، ولا ينظر في الآيات ولا يعتبر بالمسموعات ، فهو اليوم شيء باطن لظهر يوم القيامة فيحشر على وجهه إلى النار جزاء لرضاه بحالته هذه في هذه الدار فيظهر له سبحانه ما أبطن له اليوم ، والمؤمن بخلاف ذلك فيهما ، والآية من الاحتباك : ذكر الكب أولاً دليلاً على ضده ثانياً ، والمستقيم ثانياً دليلاً على المعوج أولاً ، وسره أنه ذكر أنكأ ما للمجرم وأسر ما للمسلم .
ولما كان العرب الموعوظون بهذا الذكر يتغالون في التفاخر بالهداية في الطرق المحسوسة وعدم الإخلال بشكر المعروف لمسديه ولو قل ، فنفى عنهم الأول بقيام الأدلة على خطئهم الفاحش في كل ما خالفوا فيه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من طريقهم المعنوي الذي اتخذوه جيناً ، فهو أشرف من الطريق المحسوس ، أتبعه بيان انسلاخهم من الثاني مع التأكيد لانسلاخهم من الأول ، قال آمراً للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بتنبيههم لأن الإنسان على نوعه أقبل لأنه إليه أميل ، إسقاطاً لهم من رتبة الفهم عن الله سبحانه وتعالى لسفول هممهم ولقصور نظرهم مع أنه جعل لهم حظاً ما من الحضور بتأهيلهم لخطاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لأقامتهم بالمذكور في الآية فيما يرجى معه العلم ويورث الفطنة والفهم : ( قل ) أي يا أشرف الخلق وأشفقهم عليهم مذكراً لهم بما دفع عنهم الملك من المفاسدات وجمع لهم من المصلحات والقوى والعقل ليرجعوا إليه ، ولا يعولوا في حال من أحوالهم إلا عليه ، وينظروا في لطيف صنعه وحسن تربيته فيمشي كل منهم سوياً : ( هو ) أي الله سبحانه وتعالى ) الذي ( شرفكم بهذا الذكر وبين لكم هذا البيان وحده الذي ) أنشأكم ( أي

الصفحة 82