كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 8)

وكنا نجد صعاباً كثيرة فسهّل الله لهم تلك الصعاب: كانت كتبنا المدرسية على عهد الترك ونحن صغار خلال الحرب الأولى أكثرُها بلسانهم، فلما انقضت الحرب وقامت الدولة العربية في الشام وصارت هي لسانَ التعليم لم نكن نجد في أول الأمر كتباً، فكنا ننسخ بأيدينا ما يُمليه الأساتذة علينا. فما السبب إذن؟
لعلّ قلة المدارس يومئذ دعتهم أن يأتوا بأكبر الأساتذة للتدريس فيها. وليس المدرّس القوي في مادته الواسع في علمه الذي علّم آلافاً من الطلاب في عشرات من السنين كمَن نال الشهادة يوم الأربعاء فجعلوه مدرّساً أو معيداً يوم الأحد، وكلّفوه أن يكون هو المدرّس لمن كانوا بالأمس معه إذ سبقهم قليلاً، كما سبق عريف الفصل إخوانه فيه. فكيف يكون مدرّساً لمن كانوا رفاقه قبل أسبوع؟ وكيف يُقرَن بمن كانوا أساتذته قبل أسبوع؟
وابنُ اللَّبونِ إذا ما لزَّ في قرَنٍ ... لمْ يستطعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَناعيسِ
* * *
هذه الأولى، والثانية كتب المطالعة (ونسمّيها في الشام «القراءة»)، وما يختارون فيها للطلاب من فنون الأدب ليكون لهم قدوة وإماماً ويكون نبراساً يستضيئون به.
اختار لنا الأستاذ سليم الجندي أولَ قدومه علينا في مكتب عنبر سنة 1923 قصيدة «وا حَرَّ قلباهُ مِمّنْ قلبُهُ شَبِمُ» التي ودّع بها المتنبي سيفَ الدولة لمّا فارق حلب قاصداً مصر، وشرحها لنا؛

الصفحة 371