كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 8)

حملته إليّ «دار المنارة» في جدة لأقدّم له مقدّمة.
ولقد سبق أن قدّمت لأكثر من خمسين كتاباً في أكثر من خمسين سنة، أولها كان لصحفي ناشئ اسمه عباس الحامض، صار من بعد صحفياً معروفاً ثم مضى حيث يمضي الأحياء رحمه الله، وآخرها مقدّمة شرّفني بها الداعية الكبير أخي الأستاذ أبوالحسن الندوي الذي تعرفونه فلا أحتاج أن أعرّفكم به.
هذه الكراريس التي وُضعت أمامي لكتاب ألّفه أخي ناجي، القاضي من قبلُ في الشام والمستشار الشرعي الآن في وزارة الأوقاف هنا من نحو ربع قرن، فكيف أكتب مقدّمة لكتاب لأخي؟ كنت أعرف عن مؤلّفي الكتب التي أقدّمها القليل فأصوغ منه الفصل الذي يطلبونه، ولكنني اليوم حيال حياة طويلة أخبارها كلها ماثلة لعيني، أعرفها من يوم وُلد سنة 1332هـ (وكان عمري نحو ستّ سنين) إلى حين بلغت الواحدة والثمانين، فهل يمكن أن أختصر حياة طولها خمس وسبعون سنة حتى أُدخِلها في خمس صفحات تكون مقدّمة لكتاب؟ حياة رأى فيها ورأيت مثل ما يرى الناس جميعاً: أياماً بيضاً وأياماً سوداً، عرفنا فقراً وإن لم يبلغ حدّ الحاجة، واكتفاء وإن لم يصل إلى الغنى، عرفنا السرور عن طريق الحلال وعرفنا الكدر، ورأينا أزواجاً وأشكالاً من البشر، منهم الصالح ومنهم الطالح، ومنهم الوفي ومنهم الغادر، ومنهم الأمين ومنهم الخَؤون. حياة تبدّلت فيها الدنيا التي نشأنا فيها مرّات، دالت دول وحالت أحوال، ومات أقوام ووُلد أقوام، وبادت مذاهب في الفكر وفي الأدب ونشأت مذاهب، وكانت حرب وكان سلام ... فما دام سرور وما دام كدر، وما دام نفع وما دام ضرر.

الصفحة 382