كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 8)

كان عالَمنا صغيراً ولكنا كنا نراه على صغره كبيراً، لم يكن عندنا إلاّ القليل ولكننا كنا راضين بقليلنا، كانت مسرّاتنا محدودة ولكنا لم نكن نطمح إلى أكثر من تلك المسرّات. لقد كنا سعداء، ولكن لم ندرك إلاّ الآن بعدما فات الأوان أننا كنا سعداء.
يحسب الإنسان أنه كلما زاد ماله واتسع اطّلاعه وعلَت منزلته كَبُرَت سعادته، وينسى أن السعادة هي قِصَر المسافة بين ما تجده وما تتمناه؛ فمن كان يجد عشرة ويتمنى عشرين فسعادته تنقص عشرة، ومن كان معه ألف وهو يطلب ألفين فنقص سعادته ألف. فنحن نحنّ إلى أيام الطفولة ونتمنى عودتها ونأسى على فَقدها، لأننا لم نكن نطلب فيها إلاّ القليل. ولست أريد أن ينشأ الشباب بلا طموح، فقد صدق شوقي لمّا قال:
شبابٌ قُنَّعٌ لا خَيرَ فيهمْ ... وبُورِكَ في الشّبابِ الطامحينا
* * *
كان عالَمنا بيتنا الصغير في الحارة الضيقة في حيّ في طرف دمشق، بلغ من ضيق الحارة أنه لو مشى فيها اثنان ومدّا أيديهما لنالا جانبَيها. والمسجد الصغير الذي كان أبي إمامه، فلما توفّاه الله ولّوني أنا الإمامة وأنا لم أكمل السابعة عشرة، فقالوا لي: لا بدّ للإمام من عمامة (وإن لم يكن قد اشترطها الشارع ولا أوجبها الدين) فأدرتُ على طربوشي عمامة فصرت شيخاً صغيراً. قالوا: ولا بدّ له من لحية. قلت: العمامة أتينا بها من عند البزّاز (أي بائع القماش) فمن أين آتي باللحية؟

الصفحة 383