كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 8)

فإذا رمينا بأبصارنا إلى بعيد وبلغناه بخيالنا تصوّرتُ مصر وفيها خالي محب الدين الخطيب، وإسطنبول وفيها عمّي الشيخ عبد الوهاب، يلاحق قضية لنا مع آل الصلاحي بقيت في المحاكم بين دمشق وإسطنبول ثلاثاً وثمانين سنة.
وكانت أمي رحمها الله تُلزِمني أن أكتب إلى أخيها رسالة، وكان ذلك سنة 1335هـ لمّا بدأت أتعلم الكتابة وأنشئ الرسائل. تقول لي كل يوم، وربما كرّرت لي القول مرتين في اليوم: ياعلي الله يرضى عليك اكتب لي مكتوباً إلى خالك في مصر. ولم يكن يُرضيها أن تكون الرسالة من إنشائي أنا فلم يكن يعجبها إنشائي، بل أن أختار لها ديباجة حلوة من كتاب «الإنشاء العصري»، وكان يشتمل على جميع أشكال الرسائل: رسائل الاستعطاف والاعتذار والتهنئة والتعزية، التي تُرسَل إلى الوزراء أو الرؤساء أو الأهل والأقارب أو الإخوان أو الأصدقاء. وتقول لي: اقرأ الديباجة حتى أسمعها. لأنها رحمها الله لم تكن تقرأ أو تكتب، مع أن عمّتي (وهي أسَنّ منها بخمس عشرة سنة) كانت تكتب وتقرأ وتحفظ كثيراً من آيات الكتاب ومن أحكام الفقه، وكانت قد تعلّمته من رسالة لمحمود الحمزاوي، أشهر مُفتٍ في دمشق في القرن الماضي، اسمها «علم حال»، وهو كُتيّب في أصول الدين وأصول الفقه وفي الحلال والحرام وفي الآداب والأخلاق وضعه لتلاميذ المدارس الابتدائية، ولم يكونوا يفهمون منه شيئاً فكانوا يحفظونه غيباً ويردّدونه كما تردّد الببغاء ما يُلقى عليها! وكانت عمّتي مع أول فوج تَخرّج في مدارس البنات التي أُنشئت بهمّة الشيخ طاهر الجزائري في أواخر القرن الثالث عشر الهجري وكان

الصفحة 387