كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 8)

فلما رآها قليلة لا تزال انصرف إلى نظم قصيدة عاطفية جديدة يستدرّ بها المال! ونصير للفضيلة سخّر قلمه لها ووقف صحيفته عليها، قد هرب من بيته وانصرف في تلك الساعة إلى عشيقته ليقرأ عليها مقالته الجديدة في ذم العشق وامتداح الوفاء الزوجي! وفلاّح عاكف على لبَنه يخلطه بالماء، وكلما صبّ فيه شيئاً نظر إليه وذاقه، فلما اطمأنّ أنه لم يَعُد يحتمل زيادة قعد يفكّر في أيمان جديدة يحلف بها غداً على أن اللبن خالص لم يمسسه ماء!
وباتت ثلاثون ألف فتاة ينتظرن الزواج وبات ثلاثون ألف فتى ينتظرون الزواج، وما حال بين الطائفتين إلاّ غلاء المهور وكثرة التكاليف وسخف العادات، وجهل الآباء الذين يَحسَبون بناتهم دوابَّ تُباع في سوق البقر فهم يتغالون بأثمانها، والذين لا يمتثلون أوامرَ الشرع فيمنعوا الخاطبَ الكفء أن يرى البنت ثم يُطلِقونها في الطرقات متبرجة سافرة فيراها البَرّ والفاجر وكل ذي عينين، حتى الحمار!
وخلال ذلك عشرون ألف شابّ لا ينقصهم شيء من مال ولا صحّة ولكنهم لا يزالون يشكون الملل ولا يدرون ماذا يصنعون، فيُقبِلون على الملاهي أو يقلّدون الكفار فينتحرون، ولو دقّقوا لعلموا أنهم إنما ينقصهم الإيمان.
وخمسمئة ألف من سكّان دمشق نسوا همومهم وناموا كالقتلى.
(والمقالة في كتابي «صور وخواطر»).
* * *

الصفحة 9