كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 19)
"""""" صفحة رقم 200 """"""
قال : فنزل الأسكندر مفكراً يتدبر هذا الكلام ويعتبر ، ثم بعث بحشر الصناع من البلاد ، خط الأساس ، وجعل طولها وعرضها أميالاً ، وأمر بنقل الرخام والمرمر والأحجار من جزيرة صقلية ، وبلاد إفريقية ، وأقريطيش ، وأقاصي بحر الروم ، وجزيرة رودس وغيرها ، فنقلت في المراكب ، وأمر الصناع والفعلة أن يدوروا بما رسم لهم من أساس المدينة ، وعمل على كل قطعة من الأرض خشبة قائمة ، وجعل من الخشبة إلى الخشبة حبالاً منوطة بعضها ببعض ، وأوصل جميع ذلك بعمود من الرخام كان أمام مضربه ، وعلق على العمود جرساً عظيماً مصوتاً ، وأمر الناس والقوام على ااصناع والبنائين والفعلة ، أنهم إذا سمعوا صوت ذلك الجرس أن يضعوا أساس المدينة دفعة واحدة من سائر أقطارها . وأحب الأسكندر أن يجعله في وقت يختاره ، وطالع سعد يأخذه ، فخفق الإسكندر يوماً برأسه ، فأخذته سنة في حال ارتقابه للوقت .
فجاء غراب فجلس على حبل الجرس الكبير فحركه ، وخرج صوت الجرس ، وتحركت الحبال ، وخفق ما عليها من الأجراس الصغار ، وكان قد عمل ذلك بحركات الحبال ، وخفق ما عليها من الأجراس الصغار وكان قد عمل ذلك بحركات فلسفية .
فلما سمع الصناع حس أصوات الجرس وصنعوا الأساس دفعة واحدة وارتفع الضجيج بالتحميد والتقديس ، فاستيقظ الإسكندر من رقدته ، وسأل عن الخبر ، فأخبر به ، فقال : أردت أمرا والله أراد غيره ، ويأبى الله إلا مايريده ، أردت طول بقائها ، وأراد الله سرعة فنائها وخرابها ، وتداول الملوك إياها .
قال : ولما أحكم بناؤها ، وثبت أساسها ، وجن الليل عليهم ، خرجت دواب من البحر أتت على جميع ذلك البنيان ، فقال الإسكندر حين أصبح : هذا بدء الخراب في عمرانها ، وتحقق مراد الباري في زوالها . وتطير من فعل الدواب ، وتكرر ذلك من فعل الدواب في كل يوم ، والإسكندر يوكل به من يحرسه ، وهو يصبح خراباً ، فقلق لذلك ، وراعه ما رأى ، ففكر ما الذي يصنع وأي حيلة يعمل في رفع أذى الدواب عن المدينة ، فستحت له الفكرة ليلة ، فلما اصبح أمر الصناع أن يتخذوا تابوتاً من الخشب طوله عشرة أذرع في عرض خمسة أشبار ، وجعل في جامات من الزجاج ،