كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 19)
"""""" صفحة رقم 288 """"""
فلما كان بعد ذلك أتاهم وتركهم فقال : إني قد أذنت فاذهبوا حيث شئتم ، لا ينفع الله بكم أحداً أبداً ولا يضره ، ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرة فإن أردتم النجاة فالزموا جماعتكم ، ولا يبطر الإنعام ، فإن البطر لا يعتري الخيار ، فاذهبوا حيث شئتم ، فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم .
فلما خرجوا دعاهم وكلمهم نحو كلامه الأول ، وكتب إلى عثمان أنه قدم على أقوام ليست لهم عقول ولا أديان ، أضجرهم العدل ، لا يريدون الله بشيء ، ولا يتكلمون بحجة ؛ إنما همهم الفتنة ، وأموال أهل الذمة ، والله متبليهم ومختبرهم ، ثم فاضحهم ومخزيهم ، وليسوا بالذين ينكئون أحداً إلا مع غيرهم ، فإن سعيداً ومن عنده عنهم ؛ فإنهم ليسوا لأكبر من شغب أو نكير .
قال : ولما خرجوا من دمشق قالوا : لا نرجع إلى الكوفة ، فإنهم يشمتون بنا ، ولكن ميلوا إلى الجزيرة ، فسمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وكان على حمص ، فدعاهم وقال : ياآله الشيطان ، لا مرحبا بكم ولا أهلاً قد رجع الشيطان محسوراً ، وأنتم بعد نشاط ، خسر الله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم ، يا معشر من لا أدري ، أعرب أم عجم لا تقولوا لي ما يبلغني أنكم قلتم لمعاوية : أنا ابن خالد بن الوليد ، انا ابن من عجمته العاجمات ، أنا بن فاقي الرده .
والله لمن بلغني يا صعصعة أن احداً من معي دق أنفك ، ثم أمضك ، لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى . وأقامهم شهراً ، كلما ركب أمشاهم . فلما مربه صعصعة قال : يا بن الخطيئة ، اعلمت أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر ، مالك لا تقول لما بلغني أنك قلت لسعيد ومعاوية فيقولون : نتوب إلى الله ، أقلنا أقالك الله ، فما زالوا به حتى قال : تاب الله عليكم .
وسرح الأشتر إلى عثمان ، فقدم إليه ثانياً ، فقال له عثمان ؛ أحلل حيث شئت ، قال : مع عبد الرحمن بن خالد ؟ فقال ، ذاك إليك ، فرجع إليه .
وقد حكى بعض المؤرخين من أخبارهم نحو ما تقدم ، وزاد فيه : إن معاوية لما عاد إليهم من القابلة وذكرهم ، كان مما قال لهم : والله إني لا آمركم بشيء إلا قد بدأت فيه بنفسي ، وأهل بيتي ، وقد عرفت قريش أن أبا سفيان كان أكرمها ، وابن أكرمها ؛ إلا ماجعل الله لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإن انتخبه وأكرمه ، وإني لأظن أن أبا سفيان لو ولد الناس لم يلد إلا حازماً .