كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 20)

"""""" صفحة رقم 49 """"""
وأقام علي بظاهر البصرة ثلاثاً ، وأذن للناس في دفن موتاهم ، فخرجوا إليهم فدفنوهم ، وطاف علي في القتلى ، فلما أتى كعب بن سور قال : " أزعمتم أنما خرج معهم السفهاء وهذا الحبر قد ترون " وجعل كلما مر برجل فيه خير قال : " زعم من زعم أنه لم يخرج إلينا إلا الغوغاء وهذا العابد المجتهد فيهم " وصلى علي على القتلى من بين الفريقين ، وأمر فدفنت الأطراف في قبر عظيم ، وجمع ما كان في العسكر من شيء وبعث به إلى مسجد البصرة ، وقال : من عرف شيئاً فليأخذه إلا سلاحاً كان في الخزائن عليه سمة السلطان .
قال : وكان جميع القتلى عشرة آلاف ، نصفهم من أصحاب علي ، ونصفهم من أصحاب عائشة ، حكاه أبو جعفر الطبري ، وقال غيره : ثمانية آلاف .
وقيل : سبعة عشر ألفاً . قال أبو جعفر : وقتل من ضبة ألف رجل ، وقتل من عدي حول الجمل سبعون كلهم قد قرأ القرآن سوى الشباب ومن لم يقرأ .
قال : ولما فرغ علي من الواقعة أتاه الأحنف بن قيس في بني سعد ، وكانوا قد اعتزلوا القتال ، كما ذكرنا ، فقال له عليك لقد تربصت . فقال : ما كنت أراني إلا قد أحسنت ، وبأمرك كان ما كان يا أمير المؤمنين ، فارفق ، فإن طريقك الذي سلكت بعيد ، وأنت إلي غداً أحوج منك أمس ، فاعرف إحساني ، واستصف مودتي لغدٍ ، ولا تقل مثل هذا فإني لم أزل لك ناصحاً .
ثم دخل علي البصرة يوم الاثنين ، فبايعه أهلها ، حتى الجرحى والمستأمنة ، واستعمل علي عبد الله بن عباس على البصرة ، وولى زياداً الخراج وبيت المال ، وأمر ابن عباس أن يسمع منه ويطيع وكان زياد معتزلا .
ثم راح علي رضي اله عنه إلى عائشة في دار عبد الله بن خلف الخزاعي ، فوجد النساء يبكين على عبد الله وعثمان ابني خلف ، وكان عبد الله قتل مع عائشة ، وعثمان قتل مع علي ، وكانت صفية زوجة عبد الله مختمرة تبكي ، فلما رأته قالت له : يا علي ، يا قاتل الأحبة ، يا مفرق الجمع ، أيتم الله منك بنيك كما أيتمت ولد عبد الله منه . فلم يرد عليها شيئاً ، ودخل على عائشة فسلم عليها وقعد عندها ، ثم قال : جبهتنا صفية . أما إني لم أرها منذ كانت جارية فلما خرج أعادت عليه القول ، فكف بغلته ، وقال : لقد هممت أن أفتح هذا الباب وأشار إلى باب في الدار وأقتل من فيه وكان فيه ناس من الجرحى فأخبر بمكانهم ، فتغافل عنه .

الصفحة 49