كتاب تاريخ الإسلام ت بشار (اسم الجزء: 9)

-سنة تسع وأربعين وأربعمائة
306 - أَحْمَد بن الحسن بن عنان، أبو العبّاس الكنكشيّ الزَّاهِد. [المتوفى: 449 هـ]
كان من كبار مشايخ الطّريق بالدِّينور. له معارف وتصانيف، وعاش تسعين سنة، ولقى الكبار وحكى عنهم.
روى عنه ابنه سعيد، أحد شيوخ السِّلفيّ، جزءًا فيه حكايات، وقد صَحِبَ أبا العبّاس أَحْمَد الأسود مُريد الشّيخ عيسى القصَّار، وعيسى من كبار تلامذة ممشاذ الدِّينوريّ، وذكر أن شيخه أبا العبّاس الأسود عاش مائة سنة.
قال السِّلفيّ: صنَّف أبو العبَّاس الكنكشيّ سِتّين مصنَّفا، وقد رأيت بعضها فوجدت كلامه في غاية الحُسن، وكان غزير الفضل، متفننا، عارفًا، عابدًا، سُفْيَانيّ المذهب. لم يكن لهُ نظير بتلك النّاحية، ولهُ أصحابٌ ومُريدون، وبحكمه رُبُطٌ كثيرة.
ومن كلامه: حقيقة الأُنس باللَّه الوحشة مما سواه.
وقال: عمل السّر سَرْمَدٌ، وعمل الجوارح منقطع.
وقال: من عرف قدر ما يبذله لم يستحِق اسم السّخاء.
قال: وسمعت أَحْمَد الأسود يقول: السُّكون إلى الكرامات مكرٌ وخدعة.
307 - أَحْمَد بن عبد اللَّه بن سُليمان بن محمد بن سُليمان بن أَحْمَد بن سليمان بن داود بن المطهّر بن زياد بن ربيعة، أبو العلاء التَّنوخيّ المعري اللُّغويّ، [المتوفى: 449 هـ]
الشاعر المشهور، صاحب التّصانيف المشهورة والزَّندقة المأثورة.
له " رسالة الغفران " في مجلَّد قد احتوت على مَزْدَكة واستخفاف، وفيها أدبُ كثير، وله " رسالة الملائكة " و" رسالة الطَّير " على ذلك الأُنْمُوذَج، ولهُ كتاب " سقط الزَّند " في شِعره، وهو مشهور؛ وله من النَّظم " لزوم ما لَا يلزم " في مجلَّد أبدع فيه.
وكان عجبا في الذَّكاء المُفرط والْإِطلاع الباهر على اللُّغة وشواهدها.
ولد سنة ثلاث وستّين وثلاثمائة، وجدِّر في السَّنة الثالثة من عمره فعمي منه، فكان يقول: لَا أعرف من الألوان إِلَّا الأحمر، فإنِّي أُلبِستُ في -[722]- الْجُدريّ ثوبًا مصبوغًا بالعُصْفُر، لَا أعقِل غير ذلك.
أخذ العربيّة عن أهل بلده كبني كوثر وأصحاب ابن خالويه، ثمّ رحل أطرابُلُس، وكانت بها خزائنُ كُتُبٍ مَوْقُوفَة فاجتاز باللّاذقيّة ونزل ديرًا كان به راهبٌ له علم بأقاويل الفلاسفة، فسمع أبو العلاء كلامه، فحصل له به شكوك، ولم يكن عنده ما يدفع به ذلك، فحصل له بعض انْحلال، وأودع من ذلك بعض شعره، ومنهم من يقول ارعوى وتاب واستغفر.
ومِمّن قرأ عليه أبو العلاء اللغة جماعة فقرأ بالمعرَّة على والده وبحلب على محمد بن عبد اللَّه بن سعد النَّحوي وغيره، وكان قانِعًا باليسير، لهُ وقفٌ يحصل له منه في العام نحو ثلاثين دينارًا، قرَّر منها لمن يخدمه النّصف، وكان أكْلُه العدس، وحلاوته التّين، ولباسه القُطْن، وفراشه لبّاد، وحصيرة بَرْدِيّة، وكانت له نفسٌ قويَّة لَا تحمِل منَّة أحد، وإلّا لو تكسَّب بالشِّعر والمديح لكان ينال بذلك دنيا ورياسة، واتَّفق أنّهُ عُورِض في الوقف المذكور من جهة أمير بحلب، فسافر إلى بغداد مُتظلمًا منه في سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، فسمعوا منه ببغداد " سقط الزِّند "، وعاد إلى المعرّة سنة أربعمائة، وقد قصده الطَّلبة من النّواحي.
ويُقال عنه إنّه كان يحفظ ما يمر بسمعه، وقد سمع الحديث بالمعرَّة عاليا من يحيى بن مسعر التَّنوخيّ، عن أبي عروبة الحرّانيّ، ولزم منزله، وسمّى نفسه " رهن المحبسين " للزوم منزله، وذهاب بصره، وأخذ في التّصنيف، فكان يُملي تصانيفه على الطَّلبة، ومكثَ بضعًا وأربعين سنة لَا يأكل اللَّحم، ولا يرى إيلام الحيوان مُطلَقًا على شريعة الفلاسفة، وقال الشِّعر وهو ابن إحدى عشرة سنة.
قال أبو الحسين عليّ بن يوسف القفطيّ: قرأت على ظهر كتاب عتيق أن صالح بن مرْداس صاحب حلب خرج إلى المعرَّة وقد عصى عليه أهلُها، فنازلها وشرع في حصارها ورماها بالمجانيق. فلمّا أحس أهلها بالغَلَب سعوا إلى أبي العلاء بن سليمان وسألوه أن يخرج ويشفع فيهم. فخرج ومعه قائدٌ يقوده، فأكرمه صالح واحترمه، ثمّ قال: ألك حاجة؟ قال: الأمير أطال اللَّه -[723]- بقاءه كالسّيف القاطع، لانَ مسَّهُ، وخشُنَ حدُّه وكالنّهار الماتع، قاظ وسطه، وطاب إبراده. {خد العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}. فقال له صالح: قد وهبتها لك. ثُمَّ قال لهُ: أنشِدْنا شيئًا من شعرك لنرويه. فأنشده بديها أبياتًا فيه، فترحَّل صالح.
وذُكِر أن أبا العلاء كان له مغارة ينزل إليها ويأكُل فيها، ويقول: الأعمى عورة والواجب استتاره في كلِّ أحواله. فنزل مرّةً وأكل دُبْسًا، فنقّط على صدره منه ولم يشعر، فلمَّا جلس للإقراء قال له بعض الطَّلبة: يا سيِّدي أكلت دُبْسًا؟ فأسرع بيده إلى صدره يمسحه، وقال: نعم، لعن اللَّه النَّهم. فاستحسنوا سرعة فهمه، وكان يعتذر إلى من يرحل إليه من الطَّلَبة، فإنّهُ كان ليس له سِعة، وأهل اليسار بالمعرَّة يُعرَفون بالبُخْل، وكان يتأوَّه من ذلك.
وذكر الباخرزيُّ أبا العلاء فقال: ضريرٌ ما له في الأدب ضريب ومكفوف في قميص الفضل ملفوف، ومحجوب خصمه الألدّ محجوج. قد طال في ظِل الْإِسلام إناؤه ولكن إنّما رشح بالإلحاد إناؤه، وعندنا بإساءته لكتابه الّذي زعموا أنّه عارض به القرآن وعنونه " بالفصول والغايات في مُحاذاة السُّور والَآيات ".
قال القِفْطيّ: وذكرت ما ساقه غرّس النِّعمة محمد بن هلال بن المحسّن فيه فقال: كان لهُ شعرٌ كثير وفيه أدبٌ غزير، ويرمى بالإلحاد، وأشعاره دالة على ما يزنُّ به، ولم يكُن يأكل لحمًا ولا بيضا ولا لبنًا، بل يقتصر على النبات، ويحرّم إيلام الحيوان، ويُظهِر الصَّوم دائمًا. قال: ونحنُ نذكر طرفًا ممّا بلغنا من شعره ليعلم صحّة ما يُحكى عنه من إلحاده، فمنه:
صرفُ الزّمانِ مُفَرِّقُ الإلْفَيْنِ ... فاحكُمْ إلهي بين ذاك وبيني
أَنَهَيْتَ عن قتْل النُّفُوس تعمُّدا ... وبَعَثْتَ أنتَ لقَبْضها مَلَكَيْنِ
وَزَعْمتَ أنّ لها مَعَادا ثانيا ... ما كان أغناها عن الحالَيْنِ
ومنه: -[724]-
قرانُ المُشْتَري زُحَلا يُرَجَّى ... لإيقاظِ النّواظِر مِن كَرَاهَا
تقضّى النّاسُ جيلًا بعدِ جيلٍ ... وخُلَّفتِ النّجومُ كما تراها
تقدَّم صاحبُ التُوراة موسى ... وأوقعَ بالخَسَار مَن اقْتراها
فقال رِجالُه وَحْيٌ أتاهُ ... وقال الآخرون: بلِ افتراها
وما حَجّي إلى أحجارِ بيت ... كؤوسُ الخمرِ تُشْربُ في ذُراها
إذا رَجَعَ الحكيم إلى حجاه ... تهاون بالمذاهب وازْدراها
ومنه:
عقول تستخف بها سطور ... ولا يدري الفتى لمن الثبور
كتاب محمد وكتاب موسى ... وإنجيل ابن مريم والزبور
ومنه فيما أنشدنا أبو عليّ ابن الخلاّل قال: أخبرنا جعفر، قال: أخبرنا السِّلفّي، قال: أنشدنا أبو زكريّا التِّبريزيّ، وعبد الوارث بن محمد الأسديّ لقِيُتُه بأَبْهَر قالا: أنشدنا أبو العلاء بالمعرَّة لنفسه قال:
ضحِكْنا وكان الضّحكُ مِنّا سَفَاهةً ... وحُقّ لسُكّان البسِيطةِ أن يبكوا
تُحَطِّمُنا الأيّامُ حتّى كأَنّنا ... زُجاجٌ، ولكن لَا يُعاد له السبْكُ
ومنه:
هَفَتِ الحنيفةُ والنصارى ما اهتدتْ ... ويهودُ حارتْ والمجوسُ مُضَلَّلَةْ
اثنانِ أهلُ الأرضِ: ذو عقلٍ بلا ... دينٍ، وآخرُ دَيِّنٌ لَا عقلَ لَهْ
ومنه:
قلتم لنا خالقٌ قديمٌ ... صدقتُمُ، هكذا نقول
زعمتموهُ بلا زمانٍ ... ولا مكانٍ، ألا فقولوا
هذا كلامٌ له خَبِيء ... مَعناهُ ليستْ لكُم عُقُولُ

ومنه: -[725]-
دِينُ وكُفْرٌ وأنباءٌ تقالُ وفُر ... قانٌ يُنَصُّ وتوراةٌ وإنجيلُ
في كل جيلٍ أباطيلٌ يُدانُ بها ... فهل تفرَّد يوما بالهدى جيلُ
فأجبته:
نعمْ أبو القاسم الهاديّ وأمته ... فزادك اللهُ ذُلا يا دجَيْجِيلُ
ومنه:
فَلا تحسْب مَقَال الرُّسلِ حقًّا ... ولكنْ قولُ زُور سَطَرُوهُ
وكان النّاس في عَيْش رَغِيدٍ ... فجاؤوا بالمُحالِ فكدّرُوهُ
ومنه:
وإنما حمّل التّوارة قارِئها ... كسْب الفوائد لا حُبّ التّلاواتِ
وهل أبيحت نساء الرّوم عن غرّض ... للعُرب إِلَّا بأحكام النُّبوّات
أنبأتنا أمُّ العرب فاطمة بنت أبي القاسم قالت: أخبرنا فرقد الكنانيّ سنة ثمان وستّمائة قال: أخبرنا السِّلفيّ، قال: سمعت أبا زكريا التّبْريزيّ قال: لمّا قرأت على أبي العلاء بالمعرَّة قوله:
تَنَاقُضٌ ما لنا إِلَّا السُّكُوتُ لهُ ... وأن نَعُوذَ بمولانا من النّار
يدٌ بخُمْس مِيء من عَسْجَد ودِيَتْ ... ما بالُها قُطِعَتْ في رُبع دينار؟
سألته عن معناه فقال: هذا مثل قول الفقهاء عبادةً لا يعقل معناها.
قلت: لو أراد ذلك لقال: تَعَبُّدٌ ما لنا إِلَّا السُّكوت له، ولما اعترض على اللَّه بالبيت الثاني. -[726]-
قال السِّلفّي: إن قال هذا الشِّعر معتقدًا معناه، فالنار مأواه، وليس له في الْإِسلام نصيب. هذا إلى ما يحكى عنه في كتاب " الفُصول والغايات " وكأنَّهُ معارضةً منه للسُّور والَآيات، فقيل له: أين هذا من القرآن؟ فقال: لم تصقله المحاريب أربعمائة سنة. إلى أن قال السِّلفيّ: أخبرنا الخليل بن عبد الجبّار بقزوين، وكان ثقة قال: حدثنا أبو العلاء التّنوخيّ بالمعرّة، قال: حدثنا أبو الفتح محمد بن الحسين، قال: حدثنا خيثمة فذكر حديثًا.
وقال غرس النّعمة: وحدَّثني الوزير أبو نصر بن جهير قال: حدثنا أبو نصر المنَازِيّ الشاعر قال: اجتمعت بأبي العلاء فقلت له: ما هذا الّذي يُروى عنك ويُحكى؟ قال: حَسَدوني وكذبوا عليَّ. فقلت: على ماذا حسدوك، وقد تركت لهم الدُّنيا والآخرة؟ فقال: والَآخرة؟ قلت: إي واللَّه.
قال غرس النّعمة: وأذكر عند ورود الخبر بموته، وقد تذاكرنا إلحاده، ومعنا غلام يعرف بأبي غالب بن نبهان من أهل الخير والفقه. فلمَّا كان من الغد حكى لنا قال: رأيتُ في منامي البارحة شيخا ضريرا، وعلى عاتقه أفعيان متدلّيان إلى فَخِذَيْهِ وكلُّ منهما يرفع فمه إلى وجهه، فيقطع منه لحمًا يزدرده وهو يستغيث. فقلتُ وقد هالني: من هذا؟ فقيل لي: هذا المَعَرِّيّ المُلحد.
ولَأبي العلاء:
أتى عيسى فبطَّلَ شرْعَ موسى ... وجاء محمدٌ بصلاةِ خَمْس
وقالوا: لَا نبيٌّ بعدَ هذا ... فَضَلَّ القومُ بين غدٍ وأمسِ
ومهما عشْتَ في دُنياك هذي ... فما تُخْليكَ مِنْ قَمَرٍ وشمسِ
إذا قُلتُ المُحالَ رفعتُ صَوْتي ... وإنْ قلتُ الصّحيحَ أطلَّتُ هَمْسي
وله:
إذا مات ابنُها صرخَتْ بجهلِ ... وماذا تستفيد من الصُّراخِ؟
ستتبعه كفاء العطف ليست ... بمَهْلٍ أو كَثُمَّ على التراخي
وله: -[727]-
لَا تَجْلِسْنَ حُرّةُ موفْقَةٌ ... مع ابن زوجٍ لها ولا خَتَن
فذاك خيرُ لها وأسلم لل ... إنسانِ إنْ الفَتَى من الفِتَنِ
وله:
منكَ الُّصدُودُ ومنّي بالصُّدودِ رِضا ... مَن ذا عليَّ بهذا في هواك قضى
بي منك ما لو غدا بالشّمسِ ما طَلَعَتْ ... من الكآبة أو بالبَرْقِ ما وَمَضَا
جرَّبتُ دَهْري وأهليه فما تَرَكَتْ ... لِيَ التّجاربُ في وُدّ امرئٍ غَرضا
إذا الفتى ذَمّ عَيْشا في شَبِيَبِتِه ... فما يقولُ إذا عَصْرُ الشَّباب مَضى
وقد تعوّضتُ عن كلٍّ بمُشْبهِه ... فما وجدتُ لأيّامِ الصِّبا عِوَضا
وله:
وصفراءّ لون التَّبْر مثلي جليده ... على نُوب الأيامُ والعِيشة الضَّنكِ
تُريك ابتسامًا دائمًا وتجلُّدًا ... وصبرًا على ما نابها وهي في الهلكِ
ولو نَطَقَتْ يومًا لقالت أظُنّكم ... تَخَالون أنيّ من حذار الرَّدى أبكي
فلا تحسبوا وجدي لوجد وجدته ... فقد تدمع العَيْنان من كثرة الضَّحكِ
أنشدنا أبو الحسين ببعلبكّ قال: أخبرنا جعفر قال: أخبرنا السِّلفيّ، قال: أنشدنا أبو المكارم عبد الوارث بن محمد الأسدي رئيس أبهر قال: أنشدنا أبو العلاء بن سليمان لنفسه قطعة ليس لأحد مثلها:
رغبتُ إلى الدّنيا زمانا فلم تجد ... بغير عناء والحياةُ بلاغُ
وألفى ابنه اليأس الكريمُ وبنتهُ ... لديَّ فعندي راحة، وفراغُ
وزَادَ فساد النّاس في كلّ بلدة ... أحاديثُ مين تُفْتَرى وتصاغُ
ومن شرِّ ما أسْرَجْتَ في الصُّبح والُّدجى ... كُمَيْت لها بالشارِبينَ مَرَاغُ
ولمَّا مات أوصى أن يُكتب على قبره:
هذا جناهُ أبيْ عليَّ ... وما جنيتُ على أحدْ
الفلاسفة يقولون: إيجاد الولد وإخراجه إلى هذا العالم جناية عليه، لَأنَّهُ يعرَّض إلى الحوادث والَآفات، والّذي يظهر أنَّ الرّجل مات مُتحيِّرًا، لم يجزم -[728]- بدينٍ من الأديان، نسألُ اللَّه تعالى أن يحفظ علينا إيماننا بكرمه.
أنبأتنا فاطمة بنت علي، قالت: أخبرنا فرقد بن ظافر، قال: أخبرنا أبو طاهر بن سِلَفَة، قال: من عجيب رأي أبي العلاء تركه تناول كل مأكولٍ لا تنبته الأرض شفقةً بزعمه على الحيوانات، حتى نُسِبَ إلى التَّبرهم، وأنّهُ يرى رأي البراهمة في إثبات الصّانع، وإنكار الرُّسل، وتحريم الحيوانات وإيذائها، حتّى الحيات والعقارب، وفي شِعره ما يدُل على غير هذا المذهب، وإن كان لَا يستقر به قرار ولا يبقى على قانونٍ واحد، بل يجري مع القافية إذا حصلت كما تجيء، لَا كما يجب. فأنشدني أبو المكارم الأَسَديّ رئيس أَبْهَر قال: أنشدنا أبو العلاء لنفسه:
أقرُّوا بالْإِله وأثبَتُوهُ ... وقالوا: لا نبيَّ ولا كتابُ
ووطءُ بناتِنا حلٌّ مُباحٌ ... رويدكمُ فقد بطُلَ العتابُ
تَمَادَوْا في الضّلال فلم يتوبوا ... ولو سمعوا صليلَ السّيفِ تابوا
وبه قال: وأنشدني أبو تمّام غالبُ بن عيسى الأنصاريّ بمكّة قال: أنشدنا أبو العلاء المَعَرّيّ لنفسه:
أتتني من الأيام ستُّون حجَّةً ... وما أمسكت كفّيَ بِثْنَى عنانِ
ولا كان لي دارٌ ولا ربعُ مَنْزِلٍ ... وما مسّني من ذاك روعُ جنانِ
تذكَّرتُ أنّي هالكٌ وابنُ هالِكٍ ... فهانَتْ عليَّ الأرضُ والثقلانِ
إلى أن قال السِّلفيّ: ومما يدل على صحة عقيدته ما سمعت الخطيب حامد بن بُختيار النُّميريّ بالسِّمسمانيّة - مدينة بالخابور - قال: سمعت القاضي أبا المهذب عبد المنعم بن أحمد السَّروجيّ يقول: سمعت أخي القاضي أبا الفتح يقول: دخلت على أبي العلاء التَّنوخيّ بالمعرَّة ذات يومٍ في وقت خلْوَةٍ بغير عِلْمٍ منه، وكنت أتردَّدُ إِلَيْهِ وأقرأ عليه، فسمعته وهو ينشد من قيلهِ:
كم غُودِرَت غادةٌ كَعَابٌ ... وعُمّرتْ أُمها العجوزُ
أحرَزَها الوالدان خوفًا ... والقبرُ حِرزٌ لها حريزُ
يجوزُ أن تُبْطئُ المنايا ... والخُلْدُ في الدَّهرِ لَا يجوزُ -[729]- ثم تأوه مرات وتلا قوله تعالى: " {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ} {يوم يأت لا تكلم نفس إلى بإذنه فمنهم شقي وسعيد} ".
ثم صاح وبكى. بكاءً شديدًا، وطرح وجهه على الأرض زمانًا، ثم رفع رأسه، ومسح وجهه وقال: سبحان من تكلّم بهذا في القِدَم، سبحان من هذا كلامه. فصبرتُ سَاعةً، ثم سلّمت عليه، فردّ وقال: متى أتيتَ؟
فقلت: الساعة. ثم قلت: أرى يا سيدنا في وجهك أثَرَ غَيْظ. فقال: لَا يا أبا الفتح، بل أنشدت شيئًا من كلام المخلوق، وتلوت شيئًا من كلام الخالق، فلحِقَني ما ترى. فتحقَّقتُ صحة دينه، وقوّة يقينه.
وبالْإِسناد إلى السِّلفيّ: سمعتُ أَبَا بكر التِّبْرِيزيِّ اللُّغَويّ يقول: أفضل من رأيته ممّن قرأت عَلَيْهِ أبو العلاء، وسمعتُ أبا المكارم بأبهر، وكان من أفراد الزّمان، ثِقَةً مالِكيّ المَذْهب، قال: لمَّا تُوُفّي أبو العلاء اجتمع على قبره ثمانون شاعرًا، وخُتِم في أسبوع واحد عند القبر مائتا ختمة.
وبه قال السِّلفيّ: هذا القدر الّذي يمكن إيراده هنا على وجه الاختصار، مدحًا وقدحًا، وتقريظًا، وذمًّا، وفي الجملة فكان من أهل الفضل الوافر، والَأدب الباهر، والمعرفة بالنَّسَبْ، وأيّام العرب. قرأ القرآن بروايات، وسمع الحديث بالشّام على ثِقات، ولهُ في التَّوحيد وإثبات النُّبُوَّة وما يحضّ على الزَّهْد، وإحياء طرق الفُتُوّة والمُرُوَءة شِعْرٌ كثير، والمُشكِل منه فله على زعمه تفسير.
قال القِفْطيّ: ذِكر أسماء الكُتُب الّتي صنّفها. قال أبو العلاء: لزمت مسكني منذ سنة أربعمائة واجتهدتُ أن أتوفّر على تسبيح اللَّه وتحميده، إِلَّا أن أُضطرّ إلى غير ذلك، فأمليت أشياءٌ تولّى نسخها الشّيخُ أبو الحسن عليّ بْن عَبْد اللَّه بْن أبي هاشم، أحسن اللَّه توفيقه، ألزمني بذلك حقوقًا جمّة، لَأنّهُ أفنى زمنه ولم يأخذ عما صنع ثمنه، وهي على ضروبٍ مختلفة، فمنها ما هو في الزُّهد والعِظات والتّمجيد. فمن ذلك: كتاب " الفصول والغايات " وهو موضوع على حروف المعجم، ومقداره مائة كراسة، ومنها كتاب أنشئ في ذكر غريب -[730]- هذا الكتاب، لقبه " الشادن ". نحو عشرين كراسة وكتاب " إقليد الغايات " في اللُّغة، عشر كراريس، وكتاب " الأَيْكُ والغُصُون " وهو ألف ومائتا كرّاسة، وكتاب " مختلف الفصول " نحو أربعمائة كرّاسة، وكتاب " تاج الحرة " في عظات النساء، نحو أربعمائة كراسة، وكتاب " الخُطب " نحو أربعين كرّاسة، وكتاب " تسمية خُطَب الخَيْل " عشر كراريس. كتاب " خطبة الفصيح ". نحو خمس عشرة كرّاسة، وكتاب يُعرَف " برَسِيلِ الرّامُوز " نحو ثلاثين كرّاسة. كتاب " لُزُوم ما لَا يلزم " نحو مائة وعشرين كرّاسة. كتاب " زَجْر النابح " أربعون كرّاسة. كتاب " نجر الزَّجْر " مقداره كذا. كتاب " راحة اللُّزوم في شرح كتاب لُزُوم ما لَا يلزم " نحو مائة كرّاسة. كتاب " مُلْقَى السبيل " مقداره أربع كراريس.
قلت: إنّما مقداره ثمان وَرَقات، فكأنَّهُ يعني بالكراسة زوجين من الورق.
قال: وكتاب " خماسة الراح " في ذم الخمر، نحو عشرة كراريس. " مواعظ "، خمس عشرة كراسة. كتاب " وقفة الواعظ ". كتاب " الجلي والجلى " عشرون كرّاسة. كتاب " سجع الحمائم " ثلاثون كرّاسة. كتاب " جامع الأوزان والقوافي " نحو ستّين كرّاسة. كتاب " غريب " ما في هذا الكتاب نحو عشرين كرّاسة كتاب " سَقْط الزِّند "، فيه أكثر من ثلاثة آلاف بيت نُظِم في أوّل العُمْر. كتاب " رسالة الصَّاهِل والشّاحِجْ " يتكلّم فيه على لسان فَرَسٍ وبَغْل أربعون كرّاسة. كتاب " القائف " على معنى " كليلة ودمنة " نحو ستّين كرّاسة. كتاب " منار القائف " في تفسير ما فيه من اللُّغة والغريب، نحو عشر كراريس. كتاب " السَّجع السُّلطانيّ " في مُخاطبات الملوك والوزراء، نحو ثمانين كرّاسة. كتاب " سجع الفقيه " ثلاثون كرّاسة. كتاب " سجع المُضْطَّرين "، -[731]- " رسالة المعونة ". كتاب " ذكرى حبيب " كتاب " تفسير شِعر أبي تمَّام "، نحو ستّين كرّاسة. كتاب يتصل بشعر البُحتُرِيّ. كتاب " الريّاش " أربعون كرّاسة. كتاب " تعليق الخُلَس " كتاب " إسعاف الصدّيق ". كتاب " قاضي الحق ". كتاب " الحقير النّافع " في النّحو، نحو خمس كراريس. كتاب " المختصر الفتحيّ ". كتاب " اللامع العزيزيّ " في شرح شِعر المتنبي، نحو مائة وعشرين كرّاسة. كتاب في الزُّهد يُعرف بكتاب " استَغْفِرْ واستغفِري " منظومٌ فيه نحو عشرة آلاف بيت. كتاب " ديوان الرَّسائل "، مقداره ثمان مائة كرّاسة. كتاب " خادم الرّسائل ". كتاب " مناقب علي رضي الله عنه ". رسالة " العصفورين ". كتاب " السجعات العشر ". كتاب " عون الْجُمَل ". كتاب " شرف السَّيف ". نحو عشرين كرّاسة. كتاب " شرح بعض سيَبَوَيْه " نحو خمسين كرّاسة. كتاب " الأمالي "، نحو مائة كرّاسة.
قال: فذلك خَمْسَةٌ وخمسون مُصنّفًا في نحو أربعة آلاف ومائة وعشرين كرَّاسة.
ثم قال القِفْطيّ: وأكثر كتب أبي العلاء عدمت، وإنما وُجِدَ منها ما خرج عن المعرَّة قبل هجم الكُفّار عليها، وقَتْل أهلها، وقد أتيت قبره سنة خمسٍ وستّمائة، فإذا هو في ساحةٍ بين دُور أهله، وعليه باب. فدخلتُ فإذا القبر لَا احتفال به، ورأيت على القبر خُبّازَى يابسة، والموضع على غاية ما يكون من الشَّعث والْإِهمال.
قلت: وقد رأيت قبره أنا بعد مائة سنة من رؤية القِفْطيّ فرأيتُ نحوًا ممّا حكى، وقد ذكر بعض الفُضلاء أنَّهُ وقف على المُجلَّد الأوّل بعد المائة من كتاب " الأَيْك والغُصُون "، قال: ولا أعلم ما يعوزه بعد ذلك.
وقد روى عنه، أبو القاسم التَّنُوخيّ، وهو من أقرانه، والخطيب أبو زكريّا التِّبْريزيّ أحد الأعلام، والْإِمام أبو المكارم عبد الوارث بن محمد الأَبْهَريّ، والفقيه أبو تمّام غالب بن عيسى الأنصاريّ، والخليل بن عبد الجبَّار القزوينيّ، -[732]- وأبو طاهر محمد بن أحمد بن أبي الصَّقر الأنباريّ وغير واحد.
ومرض ثلاثة أيّام، ومات في الرابع ليلة جمعة، من أوائل ربيع الأوّل من السّنة، وقد رثاه تلميذه أبو الحسن عليّ بن همّام بقوله:
إن كُنْتَ لم تُرِق الدّماءَ زَهَادةً ... فَلَقَدْ أَرَقْتُ اليَوْمَ من جَفْني دَمَا
سَيَّرتَ ذِكْرَكَ في البلاد كأنَّهُ ... مِسكٌ فسامِعُهُ يضمِّخ أو فما
وأرى الحَجِيجَ إذا أرادوا ليلةً ... ذِكْرَاكَ أخرَجَ فِديةً مَنْ أَحْرَمَا.

الصفحة 721