كتاب بحر المذهب للروياني (اسم الجزء: 9)

بقوله صلى الله عليه وسلم: "والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها". والدليل على استئذان الأب لها لا يجب وإنما يستحب ما قدمناه من جواز إجبارها على النكاح صغيرة وكبيرة, وما رواه صالح بن كيسان عن ابن جبير ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس للولي مع الثيب أمر" واليتيمة وصمتها إقرارها فلما خص اليتيمة بالاستثمار وهي التي لا أب لها دل على أن ذات الأب لا يلزم استثمارها.
فأما قوله: "والبكر تستأمر في نفسها" فيحمل مع غير الأب على الإيجاب ومع الأب على الاستحباب كما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أمته فقال تعالى: {وشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر} [آل عمران: 159] لا على أن لأحد رد ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الشافعي: "ولكن على استطابة أنفسهم وليقتدوا بسنته فيهم" واختلف فيما أمر بمشاورتهم فيه, فقال قوم: في الحرب ومكائد العدو خاصة, وقال آخرون: في أمور الدنيا دون الدين, وقال آخرون: في أمور الدين تنبيهًا لها على علل الأحكام وطريق الاجتهاد, وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم: "أمر نعيمًا أن يؤامر أم ابنته". وقال: "وأمروا الأمهات في بناتهن" وإنما ذلك على استطابة أنفسهن لا على وجوب استثمارهن, وكذلك استثمار الأب للبكر على استطابة النفس لا على الوجوب.
فرع:
فإذا ثبت أن استثمار الأب لابنته البكر استحبابًا فإذنها يكون بالصمت دون النطق, بخلاف الثيب لقوله صلى الله عليه وسلم: "وصمتها إقرارها" وروى ثابت البناني عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب إليه إحدى بناته دنا من الخدور وقال: "إن فلانًا خطب فلانة" فإن هي رضيت سكتت فكان سكوتها رضاها, وإن هي أنكرت طعنت في الخدر فكان ذلك منها إنكارًا فلا يزوجها, ولأن البكر أكثر خفرًا وتخدرًا من الثيب فهي تستحي مما لا تستحي منه الثيب من التصريح بالرغبة في الأزواج, فجعل سكوتها إذنًا ورضًا, ولم يجعل إذن الثيب إلا نطقًا, فأما من عدا الآباء من الأولياء مع البكر فعليهم استثمارها؛ لأنه لا يجوز لهم إجبارها وإذنها معهم الصمت كإذنها مع الأب.
وقال بعض أصحابنا: إذنها معهم بالنطق الصريح كالثيب بخلافها مع الأب؛ لأنها لما كانت معهم في وجوب الاستثمار كالثيب وجب أن يكون إذنها نطقًا صريحًا كالثيب, وهذا خطأ لما قدمناه من عموم الأخبار, ولما ذكرناه من كثرة الاستحياء, ولعل حياءها من غير الأب أكثر لقلة مخالطته, فكان إذنها معهم بأن يكون صمتها أولى, وهكذا السلطان مع البكر كالعصابات إذا فقدوا لا يزوجوها إلا بعد بلوغها بإذنها وإذنها معه

الصفحة 53