كتاب فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) (اسم الجزء: 9)

لها، والمراد بالبحر الجنس (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ) الكلمات (وَلَوْ جِئْنا) بمثل البحر مدادا لنفد أيضاً. والكلمات غير نافدة. و (مَدَداً) تمييز، كقولك: لي مثله رجلا. والمدد مثل المداد، وهو ما يمدّ به. وعن ابن عباس رضي الله عنه: (بمثله مدادا)، وقرأ الأعرج: مددا، بكسر الميم؛ جمع مدّة، وهي ما يستمده الكاتب فيكتب به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في جنس الممثل به فأجرى عليه حُكم الإحصاء والكتب والنفاد تنزلاً وتفهيماً، والمعنى: لو فرضنا أن غير المتناهي داخلٌ تحت حكم المتناهي، وأنه نوعٌ من جنسه، لنفد قبل نفاده، فكيف وأنه ليس من جنسه؟ هيهات، أين الثريا من الثرى! ولذل مع كلماتٍ جمع قلةٍ تتميماً للمعنى، أي: إذا كان حُكمُ الكلمات بهذه المثابة، فما ظنُّكَ بالكلم، ووضعُ المظهر موضع المضمر في قوله: (قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي) إشعارٌ بالعلية، وأنها حقيقٌ بأن تكون غير متناهية.
وأما بيانُ النظم فهو أن المخالفين لما اقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبدل آية مكان آية، قيل له: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) [الكهف: 27]، أي: دعهم وعنادهم، اشتغل بالتلاوة ودُم عليها، فإنه لا يقدر على تقدير كلمات ربك إلا هو، ثم كشف بعد ذلك من قوله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) إلى قوله: (لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) عن نُبذٍ من أسرار عجيبة محتجبة وراء أستار الغيبن ثم عقبها بقوله: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً)، يعني: قللهم: لو ان البحر مداداً لهذا الجنس من الكلمات التامات، لنفد البحرُ قبل نفادها، فكيف أبدلها من تلقاء نفسي؟ وأنا بشرٌ مثلكم لا فرق بيني وبينكم في عدم القدرة على التبديل إلا أني خُصصتُ بتلقي الوحي، وفضلت بمزية الرسالة، وغلى هذا ألمح قوله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) [الانعام: 115].
وقريبٌ من هذه المعاني ما في قوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ) [يونس: 15].

الصفحة 556