[وقال الشعبي: ] دخل عليه الوليد يومًا عائدًا، وفاطمة ابنته عنده تبكي، فقال لها الوليد: كيف أصبح أمير المؤمنين؟ فأنشد عبد الملك: [من الكامل]
كم عائدٍ رجلًا وليس يعودُه ... إلا ليعلم أنه سَيَموتُ (¬1)
ثم أنشد [من الطويل]
ومُسْتَخْبِرٍ عنّا يُريد بنا الرَّدَى ... ومُسْتَعْبِراتٍ والعيونُ سَواجِمُ
وأشار بالنّصف الأول إلى الوليد، وبالثاني إلى فاطمة ومَن كان معها من النساء، ثم قال: قبَّح الله الدنيا، طويلها قصير، وقصيرها أقصر من قصير، وكثيرها يسير، والوليد يبكي فقال له: يا وليد، أتحنُّ حَنين الحمامة [والأمة] إذا تأيَّمت؟ ! قم فشَمِّر، والبسْ جلدَ النَّمِر، وضع سيفك على عاتقك، ومن أبدى لك صَفحَته فاضرب عُنقه.
وقال المدائني: تمثّل عند موته فقال: [من الرجز]
إن بَنيَّ صِبيةٌ صَيفيُّونْ ... أفلحَ مَن كان له رِبْعيُّونْ (¬2)
إن بَنيَّ صِبية صِغارُ ... أفلحَ مَن كان له كبارُ
وكان عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - عنده، فقال عمر: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] (2).
[قال الشعبي: ] ودخل عليه قَبيصَةُ بن ذُؤيب فقال: كيف تَجدُك؟ قال: كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94] (¬3) ولم يسمع منه كلام بعدها، وأُغمي عليه، فصاح ولده هشام وبكى وقال: [من الطويل]
فما كان قيس هُلْكُه هُلْكُ واحدٍ ... ولكنه بُنيانُ قومٍ تَهدَّما
فلطمه الوليد وقال: اسكت يا ابن الأَشجعيَّة؛ فإنك أحول أكشف، تنطق بلسان شيطان، وأنشد الوليد: [من الطويل]
إذا مُقْرَمٌ منّا ذَرى حَدُّ نابِه ... تَخَمَّط منا نابُ آخر مُقْرَمِ (¬4)
¬__________
(¬1) في "مروج الذهب" 5/ 369، و"المنتظم" 6/ 273: إلا ليعلم هل يراه يموت.
(¬2) في العقد الفريد 3/ 103: الولد الصيفي الذي يُولد للرجل وقد أسن، والرِّبْعيّ الذي يولد له في عنفوان شبابه، أُخِذ من ولد البقرة الصيفي والرِّبعي. والخبر في أنساب الأشراف 6/ 387.
(¬3) "تاريخ دمشق" 43/ 281.
(¬4) "أنساب الأشراف" 6/ 388، و"المنتظم" 6/ 276، و"تاريخ دمشق" 17/ 842 - 843 (مخطوط)، والقرم: الفحل، وذرى حد نابه: انكسر.