كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 9)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ «١» " مُسْتَوْفًى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) قِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ مُوسَى لِقَوْمِهِ. وَقِيلَ هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ، أَيْ وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ إِذْ قَالَ رَبُّكَ كَذَا. وَ" تَأَذَّنَ" وَأَذَّنَ بِمَعْنَى أَعْلَمَ، مِثْلُ أَوْعَدَ وَتَوَعَّدَ، رُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ. وَمِنْهُ الْأَذَانُ، لِأَنَّهُ إِعْلَامٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَمْ نَشْعُرْ بِضَوْءِ الصُّبْحِ حَتَّى ... سَمِعْنَا فِي مَجَالِسِنَا الْأَذِينَا
وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ:" وَإِذْ قَالَ رَبُّكُمْ" وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) أَيْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ إِنْعَامِي لَأَزِيدَنَّكُمْ مِنْ فَضْلِي. الْحَسَنُ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ نِعْمَتِي لَأَزِيدَنَّكُمْ مِنْ طَاعَتِي. ابْنُ عَبَّاسٍ: لَئِنْ وَحَّدْتُمْ وَأَطَعْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ مِنَ الثَّوَابِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ، والآية تنص فِي أَنَّ الشُّكْرَ سَبَبُ الْمَزِيدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" «٢» مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى الشُّكْرِ. وسيل بَعْضُ الصُّلَحَاءِ عَنِ الشُّكْرِ لِلَّهِ فَقَالَ: أَلَّا تَتَقَوَّى بِنِعَمِهِ عَلَى مَعَاصِيهِ. وَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: أَيْ رَبِّ كَيْفَ أَشْكُرُكَ، وَشُكْرِي لَكَ نِعْمَةٌ مُجَدَّدَةٌ مِنْكَ عَلَيَّ. قَالَ: يَا دَاوُدُ الْآنَ شَكَرْتَنِي. قُلْتُ: فَحَقِيقَةُ الشُّكْرِ عَلَى هَذَا الِاعْتِرَافِ بِالنِّعْمَةِ لِلْمُنْعِمِ. وَأَلَّا يَصْرِفَهَا فِي غَيْرِ طَاعَتِهِ، وَأَنْشَدَ الْهَادِي وَهُوَ يَأْكُلُ:
أَنَالَكَ رِزْقَهُ لِتَقُومَ فِيهِ ... بِطَاعَتِهِ وَتَشْكُرَ بَعْضَ حَقِّهِ
فَلَمْ تَشْكُرْ لِنِعْمَتِهِ وَلَكِنْ ... قَوِيتَ عَلَى مَعَاصِيهِ بِرِزْقِهِ
فَغُصَّ بِاللُّقْمَةِ، وَخَنَقَتْهُ الْعَبْرَةُ. وقال جعفر الصادق: إذا سمعت النعمة الشُّكْرِ فَتَأَهَّبْ لِلْمَزِيدِ. (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) أَيْ جَحَدْتُمْ حَقِّي. وَقِيلَ: نِعَمِي، وَعَدَ بِالْعَذَابِ عَلَى الْكُفْرِ، كَمَا وَعَدَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الشُّكْرِ، وَحُذِفَتِ الْفَاءُ الَّتِي فِي جَوَابِ الشَّرْطِ من" إِنَّ" للشهرة.
---------------
(١). راجع ج ١ ص ٣٣١.
(٢). راجع ج ٢ ص ١٧١ فما بعد.

الصفحة 343