كتاب البداية والنهاية ط الفكر (اسم الجزء: 9)

واستقيموا، فو الله لَأُذِيقَنَّكُمُ الْهَوَانَ حَتَّى تَدِرُّوا، وَلَأَعْصِبَنَّكُمْ عَصَبَ السَّلَمَةِ حَتَّى تَنْقَادُوا، وَأُقْسِمُ باللَّه لَتُقْبِلُنَّ عَلَى الْإِنْصَافِ وَلَتَدَعُنَّ الْإِرْجَافَ وَكَانَ وَكَانَ، وَأَخْبَرَنِي فُلَانٌ عَنْ فلان، وأيش الخبر وَمَا الْخَبَرُ، أَوْ لَأَهْبُرَنَّكُمْ بِالسَّيْفِ هَبْرًا يَدَعُ النِّسَاءَ أَيَامَى وَالْأَوْلَادَ يَتَامَى، حَتَّى تَمْشُوا السُّمَّهَى وَتُقْلِعُوا عَنْ هَا وَهَا. فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ بَلِيغٍ غَرِيبٍ يَشْتَمِلُ عَلَى وَعِيدٍ شَدِيدٍ لَيْسَ فِيهِ وَعْدٌ بِخَيْرٍ.
فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ سَمِعَ تَكْبِيرًا فِي السُّوقِ فَخَرَجَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوى الْأَخْلَاقِ، إِنِّي سَمِعْتُ تَكْبِيرًا فِي الْأَسْوَاقِ لَيْسَ بِالتَّكْبِيرِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّرْغِيبُ، وَلَكِنَّهُ تَكْبِيرٌ يُرَادُ بِهِ التَّرْهِيبُ، وَقَدْ عَصَفَتْ عَجَاجَةٌ تَحْتَهَا قَصْفٌ، يَا بَنِي اللَّكِيعَةِ وَعَبِيدَ الْعَصَا وَأَبْنَاءَ الْإِمَاءِ وَالْأَيَامَى، أَلَا يَرْبَعُ كُلُّ رِجْلٍ مِنْكُمْ عَلَى ظَلْعِهِ، وَيُحْسِنُ حَقْنَ دَمِهِ وَيُبَصِرُ مَوْضِعَ قدمه، فأقسم باللَّه لَأُوشِكُ أَنْ أُوقِعَ بِكُمْ وَقْعَةً تَكُونُ نكالا لما قبلها وأدبا لما بعدها. قال فقام إليه عمير بن ضابىء التميمي ثم الحنظليّ فقال: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ أَنَا فِي هَذَا الْبَعْثِ وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ وَعَلِيلٌ، وَهَذَا ابْنِي هُوَ أشب منى. قال: ومن أنت؟ قال عمير بن ضابىء التَّمِيمِيُّ، قَالَ: أَسَمِعْتَ كَلَامَنَا بِالْأَمْسِ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: أَلَسْتَ الَّذِي غَزَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: كَانَ حَبَسَ أَبِي وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، قال أو ليس هو الّذي هو يَقُولُ:
هَمَمْتُ وَلَمْ أَفْعَلْ وَكِدْتُ وَلَيْتَنِي ... فَعَلْتُ ووليت البكاء حلائلا
ثُمَّ قَالَ الْحَجَّاجُ: إِنِّي لَأَحْسَبُ أَنَّ فِي قَتْلِكَ صَلَاحُ الْمِصْرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ قُمْ إِلَيْهِ يَا حَرَسِيُّ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فضرب عنقه وانتهب ماله، وأمر مناديا فنادى في الناس ألا إن عمير بن ضابىء تَأَخَّرَ بَعْدَ سَمَاعِ النِّدَاءِ ثَلَاثًا فَأُمِرَ بِقَتْلِهِ، فَخَرَجَ النَّاسُ حَتَّى ازْدَحَمُوا عَلَى الْجِسْرِ فَعَبَرَ عَلَيْهِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ مَذْحِجٍ، وَخَرَجَتْ مَعَهُمُ الْعُرَفَاءُ حَتَّى وَصَلُوا بِهِمْ إِلَى الْمُهَلَّبِ، وَأَخَذُوا مِنْهُ كِتَابًا بِوُصُولِهِمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ الْمُهَلَّبُ: قَدِمَ الْعِرَاقَ وَاللَّهِ رَجُلٌ ذَكَرٌ، الْيَوْمَ قُوتِلَ الْعَدُوُّ. وَيُرْوَى أَنَّ الْحَجَّاجُ لَمْ يعرف عمير بن ضابىء حَتَّى قَالَ لَهُ عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ: أَيُّهَا الأمير! إن هذا جاء إلى عثمان بعد ما قُتِلَ فَلَطَمَ وَجْهَهُ، فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ عِنْدَ ذَلِكَ بِقَتْلِهِ.
وَبَعَثَ الْحَجَّاجُ الْحَكَمَ بْنَ أَيُّوبَ الثَّقَفِيَّ نَائِبًا عَلَى الْبَصْرَةِ مِنْ جِهَتِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يشتد على خالد ابن عَبْدِ اللَّهِ، وَأَقَرَّ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ شُرَيْحًا ثُمَّ رَكِبَ الْحَجَّاجُ إِلَى الْبَصْرَةِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ أَبَا يَعْفُورَ، وَوَلَّى قَضَاءَ الْبَصْرَةِ لِزُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْكُوفَةِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَأَقَرَّ عَمَّهُ يَحْيَى عَلَى نِيَابَةِ الْمَدِينَةِ، وَعَلَى بِلَادِ خُرَاسَانَ أُمَيَّةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَثَبَ النَّاسُ بِالْبَصْرَةِ عَلَى الْحَجَّاجِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَكِبَ مِنْ الْكُوفَةِ بعد قتل عمير بن ضابىء قام في أهل البصرة فخطبهم نظير ما خطب أهل الكوفة من الوعيد والتشديد وَالتَّهْدِيدِ الْأَكِيدِ، ثُمَّ

الصفحة 9