كتاب الكامل في التاريخ (اسم الجزء: 9)

وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مُظَفَّرَ الدِّينِ كَوْكَبَرِّيَّ بْنَ زَيْنِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ بُكْتُكِينَ وَهُوَ مُقْطَعٌ حَرَّانَ كَانَ قَدْ أَقْطَعَهُ إِيَّاهَا عِزُّ الدِّينِ أَتَابِكُ، الْمَدِينَةَ وَالْقَلْعَةَ، ثِقَةً بِهِ وَاعْتِمَادًا عَلَيْهِ، أَرْسَلَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ وَهُوَ يُحَاصِرُ بَيْرُوتَ يُعْلِمُهُ أَنَّهُ مَعَهُ مُحِبٌّ لِدَوْلَتِهِ، وَوَعَدَهُ النُّصْرَةَ لَهُ إِذَا عَبَرَ الْفُرَاتَ، وَيُطْمِعَهُ فِي الْبِلَادِ وَيَحُثُّهُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهَا، فَسَارَ صَلَاحُ الدِّينِ عَنْ بَيْرُوتَ، وَرُسُلُ مُظَفَّرِ الدِّينِ تَتْرَى إِلَيْهِ يَحُثُّهُ عَلَى الْمَجِيءِ، فَجَدَّ صَلَاحُ الدِّينِ السَّيْرَ مُظْهِرًا أَنَّهُ يُرِيدُ حَصْرَ حَلَبَ سِتْرًا لِلْحَالِ.
فَلَمَّا قَارَبَ الْفُرَاتَ سَارَ إِلَيْهِ مُظَفَّرُ الدِّينِ فَعَبَرَ الْفُرَاتَ وَاجْتَمَعَ بِهِ وَعَادَ مَعَهُ فَقَصَدَ الْبِيَرَةَ، وَهِيَ قَلْعَةٌ مَنِيعَةٌ عَلَى الْفُرَاتِ مِنَ الْجَانِبِ الْجَزَرِيِّ، وَكَانَ صَاحِبُهَا قَدْ سَارَ مَعَ صَلَاحِ الدِّينِ، وَفِي طَاعَتِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ ذَلِكَ قَبْلُ، فَعَبَرَ هُوَ وَعَسْكَرُهُ الْفُرَاتَ عَلَى الْجِسْرِ الَّذِي عِنْدَ الْبِيَرَةِ.
وَكَانَ عِزُّ الدِّينِ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ وَمُجَاهِدُ الدِّينِ لَمَّا بَلَغَهُمَا وُصُولُ صَلَاحِ الدِّينِ إِلَى الشَّامِ قَدْ جَمَعَا الْعَسْكَرَ وَسَارَا إِلَى نَصِيبِينَ لِيَكُونَا عَلَى أُهْبَةٍ وَاجْتِمَاعٍ لِئَلَّا يَتَعَرَّضَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى حَلَبَ، ثُمَّ تَقَدَّمَا إِلَى دَارَا، فَنَزَلَا عِنْدَهَا، فَجَاءَهُمَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ فِي الْحِسَابِ، فَلَمَّا بَلَغَهُمَا عُبُورُ صَلَاحِ الدِّينِ الْفُرَاتَ عَادَا إِلَى الْمَوْصِلِ وَأَرْسَلَا إِلَى الرُّهَا عَسْكَرًا يَحْمِيهَا وَيَمْنَعُهَا، فَلَمَّا سَمِعَ صَلَاحُ الدِّينِ ذَلِكَ قَوِيَ طَمَعُهُ فِي الْبِلَادِ، وَلَمَّا عَبَرَ صَلَاحُ الدِّينِ الْفُرَاتَ كَاتَبَ الْمُلُوكَ أَصْحَابَ الْأَطْرَافِ وَوَعَدَهُمْ، وَبَذَلَ لَهُمُ الْبَذُولَ عَلَى نُصْرَتِهِ، فَأَجَابَهُ نُورُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ قَرَا أَرْسَلَانَ، صَاحِبُ الْحِصْنِ، إِلَى مَا طَلَبَ مِنْهُ، لِقَاعِدَةٍ كَانَتِ اسْتَقَرَّتْ بَيْنَهُمَا لَمَّا كَانَ نُورُ الدِّينِ عِنْدَهُ بِالشَّامِ، فَإِنَّهُ اسْتَقَرَّ الْحَالُ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ يَحْصُرُ آمِدَ وَيَمْلِكُهَا، وَيُسَلِّمُهَا إِلَيْهِ.
وَسَارَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى مَدِينَةِ الرُّهَا، فَحَصَرَهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَقَاتَلَهَا أَشَدَّ قِتَالٍ. فَحَدَّثَنِي بَعْضُ مَنْ كَانَ بِهَا مِنَ الْجُنْدِ أَنَّهُ عَدَّ فِي غِلَافِ رُمْحٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ خَرْقًا وَقَدْ خَرَقَتْهُ السِّهَامُ.
وَوَالَى الزَّحْفَ عَلَيْهَا، وَكَانَ حِينَئِذٍ مُقْطَعُهَا، وَهُوَ الْأَمِيرُ فَخَرُ الدِّينِ مَسْعُودُ

الصفحة 462