كتاب الكامل في التاريخ (اسم الجزء: 9)

تَرَكَاهَا وَسَارَا عَنْهَا إِلَى بَعْضِ الْقِلَاعِ الْجَبَلِيَّةِ.
وَوَافَقَهُ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ ابْنُ عَمِّهِ شِيرِكُوه، وَكَانَ قَدْ بَذَلَ لِصَلَاحِ الدِّينِ مَالًا كَثِيرًا لِيُقْطِعَهُ الْمَوْصِلَ إِذَا مَلَكَهَا. وَقَدْ أَجَابَهُ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى ذَلِكَ، فَأَشَارَ بِهَذَا الرَّأْيِ لِهَوَاهُ، فَسَارَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَكَانَ عِزُّ الدِّينِ صَاحِبُهَا وَمُجَاهِدُ الدِّينِ قَدْ جَمَعَا بِالْمَوْصِلِ الْعَسَاكِرَ الْكَثِيرَةَ مَا بَيْنَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، وَأَظْهَرَا مِنَ السِّلَاحِ وَآلَاتِ الْحِصَارِ مَا حَارَتْ لَهُ الْأَبْصَارُ، وَبَذَلَا الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ، وَأَخْرَجَ مُجَاهِدُ الدِّينِ مِنْ مَالِهِ كَثِيرًا، وَاصْطَلَى الْأُمُورَ بِنَفْسِهِ، فَأَحْسَنَ تَدْبِيرَهَا، وَشَحَنُوا مَا بَقِيَ بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْبِلَادِ، كَالْجَزِيرَةِ وَسِنْجَارَ وَإِرْبِلَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، بِالرِّجَالِ وَالسِّلَاحِ وَالْأَمْوَالِ.
وَسَارَ صَلَاحُ الدِّينِ حَتَّى قَارَبَ الْمَوْصِلَ وَتَرَكَ عَسْكَرَهُ، وَانْفَرَدَ هُوَ وَمُظَفَّرُ الدِّينِ وَابْنُ عَمِّهِ نَاصِرُ الدِّينِ شِيرِكُوهْ، وَمَعَهُمَا نَفَرٌ مِنْ أَعْيَانِ دَوْلَتِهِ، وَقَرُبُوا مِنَ الْبَلَدِ، فَلَمَّا قَرُبُوا رَآهُ وَحَقَّقَهُ، فَرَأَى مَا هَالَهُ وَمَلَأَ صَدْرَهُ وَصُدُورَ أَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُ رَأَى بَلَدًا عَظِيمًا كَبِيرًا، وَرَأَى السُّورَ وَالْفَصِيلَ قَدْ مُلِئَا مِنَ الرِّجَالِ، وَلَيْسَ فِيهِ شُرَّافَةٌ إِلَّا وَعَلَيْهَا رَجُلٌ يُقَاتِلُ سِوَى مَنْ عَلَيْهِ مِنْ عَامَّةِ الْبَلَدِ الْمُتَفَرِّجِينَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ، وَأَنَّهُ يَعُودُ خَائِبًا، فَقَالَ لِنَاصِرِ الدِّينِ ابْنِ عَمِّهِ: إِذَا رَجَعْنَا إِلَى الْمُعَسْكَرِ فَاحْمِلْ مَا بَذَلْتَ مِنَ الْمَالِ فَنَحْنُ مَعَكَ عَلَى الْقَوْلِ. فَقَالَ نَاصِرُ الدِّينِ: قَدْ رَجَعْتُ عَمَّا بَذَلْتُ مِنَ الْمَالِ، فَإِنَّ هَذَا الْبَلَدَ لَا يُرَامُ. فَقَالَ لَهُ وَلِمُظَفَّرِ الدِّينِ: غَرَّرْتُمَانِي وَأَطْمَعْتُمَانِي فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ، وَلَوْ قَصَدْتُ غَيْرَهُ قَبْلَهُ لَكَانَ أَسْهَلَ أَخْذًا بِالِاسْمِ وَالْهَيْبَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَنَا وَمَتَى نَازَلْنَاهُ، وَعُدْنَا مِنْهُ، يَنْكَسِرُ نَامُوسُنَا وَيَفُلُّ حَدُّنَا وَشَوْكَتُنَا.
ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ وَصَبَّحَ الْبَلَدَ، وَكَانَ نُزُولُهُ عَلَيْهِ فِي رَجَبٍ، فَنَازَلَهُ وَضَايَقَهُ، وَنَزَلَ مُحَاذِي بَابَ كِنْدَةَ، وَأَنْزَلَ صَاحِبَ الْحِصْنِ بِبَابِ الْجِسْرِ، وَأَنْزَلَ أَخَاهُ تَاجَ الْمُلُوكِ عِنْدَ الْبَابِ الْعِمَادِيِّ، وَأَنْشَبَ الْقِتَالَ، فَلَمْ يَظْفَرْ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ يَوْمًا بَعْضُ الْعَامَّةِ فَنَالُوا مِنْهُ، وَلَمْ يُمَكِّنْ عِزُّ الدِّينِ وَمُجَاهِدُ الدِّينِ أَحَدًا مِنَ الْعَسْكَرِ [أَنْ] يَخْرُجُوا لِقِتَالٍ بَلْ أُلْزِمُوا الْأَسْوَارَ، ثُمَّ إِنَّ تَقِيَّ الدِّينِ أَشَارَ عَلَى عَمِّهِ صَلَاحِ الدِّينِ بِنَصْبِ مَنْجَنِيقٍ، فَقَالَ: مِثْلُ هَذَا الْبَلَدِ لَا يُنْصَبُ عَلَيْهِ مَنْجَنِيقٌ، وَمَتَى نَصَبْنَاهُ أَخَذُوهُ، وَلَوْ خَرَّبْنَا بُرْجًا وَبَدَنَةٍ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الدُّخُولِ لِلْبَلَدِ وَفِيهِ هَذَا الْخَلْقُ الْكَثِيرُ؟ فَأَلَحَّ تَقِيُّ الدِّينِ وَقَالَ: نُجَرِّبُهُمْ بِهِ، فَنَصَبَ مَنْجَنِيقًا، فَنُصِبَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَلَدِ تِسْعَةُ مَجَانِيقَ، وَخَرَجَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَامَّةِ فَأَخَذُوهُ وَجَرَى عِنْدَهُ قِتَالٌ كَثِيرٌ، فَأَخَذَ بَعْضُ الْعَامَّةِ لَالُكَّةً مِنْ رِجْلَيْهِ، فِيهَا الْمَسَامِيرُ الْكَثِيرَةُ، وَرَمَى بِهَا

الصفحة 464