كتاب الكامل في التاريخ (اسم الجزء: 9)

ذِكْرُ مُلْكِهِ مَدِينَةَ سِنْجَارَ
لَمَّا سَارَ صَلَاحُ الدِّينِ عَنِ الْمَوْصِلِ إِلَى سِنْجَارَ، سَيَّرَ مُجَاهِدُ الدِّينِ إِلَيْهَا عَسْكَرًا قُوَّةً لَهَا وَنَجْدَةً، فَسَمِعَ بِهِمْ صَلَاحُ الدِّينِ، فَمَنَعَهُمْ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا، وَأَوْقَعَ بِهِمْ، وَأَخَذَ سِلَاحَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ وَسَارَ إِلَيْهَا وَنَازَلَهَا، وَكَانَ بِهَا شَرَفُ الدِّينِ أَمِيرُ أَمِيرَانَ هَنْدُوا أَخُو عِزِّ الدِّينِ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فِي عَسْكَرٍ مَعَهُ، فَحَصَرَ الْبَلَدَ وَضَايَقَهُ، وَأَلَحَّ فِي قِتَالِهِ، فَكَاتَبَهُ بَعْضُ أُمَرَاءِ الْأَكْرَادِ الَّذِينَ بِهِ مِنَ الزَّرْزَارِيَّةِ، وَخَامَرَ مَعَهُ، وَأَشَارَ بِقَصْدِهِ مِنَ النَّاحِيَةِ الَّتِي هُوَ بِهَا لِيُسَلِّمَ إِلَيْهِ الْبَلَدَ، فَطَرَقَهُ صَلَاحُ الدِّينِ لَيْلًا فَسَلَّمَ إِلَيْهِ نَاحِيَتَهُ، فَمَلَكَ الْبَاشُورَةَ لَا غَيْرَ. فَلَمَّا سَمِعَ شَرَفُ الدِّينِ الْخَبَرَ اسْتَكَانَ وَخَضَعَ، وَطَلَبَ الْأَمَانَ، فَأَمِنَ، وَلَوْ قَاتَلَ عَلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ لَأَخْرَجَ الْعَسْكَرَ الصَّلَاحِيَّ عَنْهَا، وَلَوِ امْتَنَعَ بِالْقَلْعَةِ لِحَفِظَهَا وَمَنَعَهَا، وَلَكِنَّهُ عَجَزَ، فَلَمَّا طَلَبَ الْأَمَانَ أَجَابَهُ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَيْهِ، فَأَمَّنَهُ وَمَلَكَ الْبَلَدَ.
وَسَارَ شَرَفُ الدِّينِ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَاسْتَقَرَّ جَمِيعُ مَا مَلَكَهُ صَلَاحُ الدِّينِ بِمُلْكِ سِنْجَارَ، فَإِنَّهُ كَانَ قَصَدَ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ الْمَوَاصِلَةُ إِذَا فَارَقَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَصْنٌ غَيْرُ الرُّهَا، فَلَمَّا مَلَكَ سِنْجَارَ صَارَتْ عَلَى الْجَمِيعِ كَالسُّورِ، وَاسْتَنَابَ بِهَا سَعْدَ الدِّينِ بْنَ مَعِينِ الدِّينِ أَنَزْ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ وَأَحْسَنِهِمْ صُورَةً وَمَعْنًى.

ذِكْرُ عَوْدِ صَلَاحِ الدِّينِ إِلَى حَرَّانَ
لَمَّا مَلَكَ صَلَاحُ الدِّينِ سِنْجَارَ وَقَرَّرَ قَوَاعِدَهَا سَارَ إِلَى نَصِيبِينَ، فَلَقِيَهُ أَهْلُهَا شَاكِينَ مِنْ أَبِي الْهَيْجَاءِ السَّمِينِ، بَاكِينَ مِنْ ظُلْمِهِ، مُتَأَسِّفِينَ عَلَى دَوْلَةِ عِزِّ الدِّينِ وَعَدْلِهِ فِيهِمْ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ أَنْكَرَ عَلَى أَبِي الْهَيْجَاءِ ظُلْمَهُ، وَعَزَلَهُ عَنْهُمْ، وَأَخْذَهُ مَعَهُ، وَسَارَ إِلَى حَرَّانَ، وَفَرَّقَ عَسَاكِرَهُ لِيَسْتَرِيحُوا، وَبَقِيَ جَرِيدَةً فِي خَوَاصِّهِ وَثِقَاتِ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ وُصُولُهُ إِلَيْهَا أَوَائِلَ ذِي الْقِعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ.

الصفحة 466