«القومُ ما بينَ التسعِمائة والألف». يعتبرُ ذلك بتسع جزائرَ ينحَرونها يومًا، وعشرٍ ينحَرونها يومًا، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أشيروا عليَّ في المنزل». فقام الحُبابُ بن المنذر، أحد بني سَلِمة، فقال: يا رسول الله، أنا عالمٌ بها وبقُلُبِها، إن رأيتَ أن تسيرَ إلى قَلِيبٍ منها قد عرَفتُها كثيرةَ الماء عذبة، فتنزِلَ إليها، وتَسْبِقَ القومَ إليها، وتُغَوِّرَ ما سِواها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سِيروا، فإن الله قد وعدكم إحدى الطائفتين أنها لكم». فوقع في قلوب ناس كثير الخوف، وكان فيهم شيء من تخاذل من تخويف الشيطان، فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون مُسابِقين إلى الماء، وسار المشركون سِراعًا يريدون الماء، فأنزل الله عليهم في تلك الليلة مطرًا واحدًا؛ فكان على المشركين بلاءً شديدًا منعهم أن يسيروا، وكان على المسلمين دِيمةً (¬١) خفيفة، لَبَّد (¬٢) لهم المسيرَ والمَنزلَ، وكانت بَطْحاءُ (¬٣)، فسبَق المسلمون إلى الماء، فنزَلوا عليه شَطرَ الليل، فاقْتَحَم القوم في القليبِ فماحُوها (¬٤) حتى كثُر ماؤُها، وصنَعوا حوضًا عظيمًا، ثم غَوَّروا ما سواه من المياه، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هذه مَصارِعُهم -إن شاء الله- بالغداة». وأنزَل الله: «إذْ يَغْشاكُمُ النُّعاسُ أمَنَةً مِّنْهُ ويُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ ويُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ولِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ ويُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدامَ» (¬٥). ثم صفَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الحِياضِ، فلما طلَع المشركون قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهمّ هذه قريش قد جاءت بِخُيَلائِها وفخرِها، تُحادُّك وتكذِّبُ رسولك، اللهمَّ إني أسألك ما وعَدتَني». ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممسكٌ بعَضُدِ أبي بكر، يقول: «اللهم إني أسألك ما وعَدتَني». فقال أبو بكر: أبشِرْ، فوالذي نفسي بيده، ليُنجِزَنَّ اللهُ لك ما وعَدَك. فاستنصَرَ المسلمون الله واستغاثوه، فاستجاب الله لنبيِّه وللمسلمين.
---------------
(¬١) الدِّيمة: المطر الدائم في سكون. النهاية (ديم).
(¬٢) أي: جعل الأرض التي يسيرون عليها قوية لا تَسُوخُ فيها الأرجل وكذا المنزلُ الذي ينزلونه. النهاية (لبد).
(¬٣) بطحاء الوادي وأَبْطَحُهُ: حصاه اللِّيِّنُ في بطن المَسِيل. النهاية (بطح).
(¬٤) الميح: أن يدخل البئر فيملأ الدلو، وذلك إذا قل ماؤها. اللسان (ميح).
(¬٥) و «إذْ يَغْشاكُمُ النُّعاسُ» بفتح الياء والشين وألف بعدها، ورفع «النُّعاسُ» قراءة متواترة، قرأ بها ابن كثير، وأبو عمرو، وقرأ نافع، وأبو جعفر: «إذْ يُغْشِيكُمُ النُّعاسَ» بضم الياء، وكسر الشين، وياء بعدها، ونصب «النُّعاسَ»، وكذلك بقية العشرة إلا أنهم فتحوا العين، وشدّدوا الشين «إذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ». انظر: النشر ١/ ٢٧٦، والإتحاف ص ٢٩٧.