كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 9)
وَيُحِبُّ نَيْلَهَا، فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ: أَيْ بِهِ وَعَنْ أَمْرِهِ، لَا تُنَالُ عِزَّتُهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ عِلْمَ الْعِزَّةِ، فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ: أَيْ هُوَ الْمُتَّصِفُ بِهَا. وَقِيلَ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ:
أي لَا يَعْقُبُهَا ذِلَّةٌ، وَيُصَارُ بِهَا لِلذِّلَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ الْكَافِرُونَ يَتَعَزَّزُونَ بِالْأَصْنَامِ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا «1» . وَالَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةِ قُلُوبِهِمْ كَانُوا يَتَعَزَّزُونَ بِالْمُشْرِكِينَ، كَمَا قَالَ: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً «2» ، فَبَيَّنَ أَنْ لَا عِزَّةَ إِلَّا لِلَّهِ وَلِأَوْلِيَائِهِ وَقَالَ: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «3» . انْتَهَى. وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ قَوْلِهِ: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً «4» ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهَا لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «5» وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ، لِأَنَّ الْعِزَّةَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ بِالذَّاتِ، وَلِلرَّسُولِ بِوَاسِطَةِ قُرْبِهِ مِنَ اللَّهِ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ. فَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ أَوَّلًا غَيْرُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ ثَانِيًا. وَمَنِ اسْمُ شَرْطٍ، وَجُمْلَةُ الْجَوَابِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ إِذَا لَمْ يَكُنْ ظَرْفًا، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ عَلَى حَسَبِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ. فَعَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ: فَهُوَ مَغْلُوبٌ، وَعَلَى قَوْلِ قَتَادَةَ: فيطلبها مِنَ اللَّهِ، وَعَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ: فَلْيُنْسِبْ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الرَّابِعِ: فَهُوَ لَا يَنَالُهَا وَحُذِفَ الْجَوَابُ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِقَوْلِهِ: فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً، لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ قَتَادَةَ:
فَلْيَطْلُبْهَا من الْعِزَّةُ لَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَمَا يُرِيدُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ «6» ، وَانْتُصِبَ جَمِيعًا عَلَى الْمُرَادِ، وَالْمُرَادُ عِزَّةُ الدُّنْيَا وَعِزَّةُ الْآخِرَةِ.
والْكَلِمُ الطَّيِّبُ: التَّوْحِيدُ وَالتَّحْمِيدُ وَذِكْرُ اللَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: ثَنَاءٌ بِالْخَيْرِ عَلَى صَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ كَعْبٌ: إِنَّ لِسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ لَدَوِيًّا حَوْلَ الْعَرْشِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ بِذِكْرِ صَاحِبِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَصْعَدُ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مِنْ صَعِدَ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ: مَرْفُوعًا، فَالْكَلِمُ جَمْعُ كَلِمَةٍ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَالسُّلَمِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ: يُصْعَدُ مِنْ أُصْعِدَ
، الْكَلَامُ الطَّيِّبُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَصْعَدُ مِنْ صَعِدَ الْكَلَامُ: رَقِيَ، وَصُعُودُ الْكَلَامِ إِلَيْهِ تَعَالَى مَجَازٌ فِي الْفَاعِلِ وَفِي الْمُسَمَّى إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ فِي جِهَةٍ، وَلِأَنَّ الْكَلِمَ أَلْفَاظٌ لَا تُوصَفُ بِالصُّعُودِ، لِأَنَّ الصُّعُودَ مِنَ الْأَجْرَامِ يَكُونُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كِنَايَةٌ عن
__________
(1) سورة مريم: 19/ 81.
(2) سورة النساء: 4/ 139.
(3) سورة المنافقون: 63/ 8. [.....]
(4) سورة النساء: 4/ 139.
(5) سورة فاطر: 35/ 10.
(6) سورة آل عمران: 3/ 26.
الصفحة 18