كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 9)

وَفِي مُوسى، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ مِثْلِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا: أَوْ عَلَى قَوْلِهِ، وَتَرَكْنا فِيها آيَةً «1» ، عَلَى مَعْنَى: وَجَعَلْنَا فِي مُوسَى آيَةً، كَقَوْلِهِ:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا انْتَهَى، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِضْمَارِ وَتَرَكْنا، لِأَنَّهُ قَدْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي الْمَجْرُورِ وَتَرَكْنا.
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ: أَيِ ازْوَرَّ وَأَعْرَضَ، كَمَا قَالَ: وَنَأى بِجانِبِهِ «2» . وَقِيلَ: بِقُوَّتِهِ وَسُلْطَانِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: بِرُكْنِهِ: بِمَجْمُوعِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بِقَوْمِهِ. وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ: ظَنَّ أَحَدَهُمَا، أَوْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ قَالَهُمَا، قَالَ: إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ «3» ، وقالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ «4» ، وَاسْتَشْهَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِقَوْلِ جَرِيرٍ:
أَثَعْلَبَةَ الْفَوَارِسِ أَوْ رَبَاحًا ... عَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيَّةَ وَالْحَشَايَا
وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى جَعْلِ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، إِذْ يَكُونُ قَالَهُمَا، وَأَبْهَمَ عَلَى السامع، فأو للإبهام. وَمُلِيمٌ
: أَيْ أَتَى مِنَ الْمَعَاصِي مَا يُلَامُ عَلَيْهِ. الْعَقِيمَ الَّتِي لَا خَيْرَ فِيهَا، مِنَ الشِّتَاءِ مَطَرٌ، أَوْ لِقَاحُ شَجَرٍ. وَفِي الصَّحِيحِ: نُصِرْتُ بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ. فَقَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا الصَّبَا، أَوِ الْجَنُوبُ، أَوِ النَّكْبَاءُ، وَهِيَ رِيحٌ بَيْنَ رِيحَيْنِ، نَكَبَتْ عَنْ سَمْتِ الْقِبْلَةِ، فَسُمِّيَتْ نَكْبَاءَ، لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِمُعَارَضَتِهِ لِلنَّصِّ الثَّابِتِ
عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا الدَّبُّورُ.
مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ: وَهُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ، كَقَوْلِهِ: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها «5» : أَيْ مِمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَدْمِيرَهُ وَإِهْلَاكَهُ مِنْ نَاسٍ أَوْ دِيَارٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ نَبَاتٍ، لِأَنَّهَا لَمْ يُرِدِ اللَّهُ بِهَا إِهْلَاكَ الْجِبَالِ وَالْآكَامِ وَالصُّخُورِ، وَلَا الْعَالَمِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مِنْ قَوْمِ عَادٍ. إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالرَّمِيمُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي يس، وَهُنَا قَالَ السُّدِّيُّ: التُّرَابُ، وَقَتَادَةُ:
الْهَشِيمُ، وَمُجَاهِدٌ: الْبَالِي، وَقُطْرُبٌ: الرَّمَادُ، وَابْنُ عِيسَى: الْمُنْسَحِقُ الَّذِي لَا يَرِمُّ، جَعَلَ الْهَمْزَةَ فِي أَرَمَّ لِلسَّلْبِ. رُوِيَ أَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ تَمُرُّ بِالنَّاسِ، فِيهِمُ الرَّجُلُ مِنْ قوم عاد، فتنزعه
__________
(1) سورة الذاريات: 51/ 37.
(2) سورة الإسراء: 17/ 73، وسورة فصلت: 41/ 51.
(3) سورة الشعراء: 26/ 34.
(4) سورة الشعراء: 26/ 27.
(5) سورة الأحقاف: 46/ 25.

الصفحة 558