كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 9)
أَوْجَهٌ وَالْمَعْنَى تَأَمَّلْنَ مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ هَلْ هُوَ رَضَاعٌ صَحِيحٌ بِشَرْطِهِ مِنْ وُقُوعِهِ فِي زَمَنِ الرَّضَاعَةِ وَمِقْدَارِ الِارْتِضَاعِ فَإِنَّ الْحُكْمَ الَّذِي يَنْشَأُ مِنْ الرَّضَاعِ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا وَقَعَ الرَّضَاعُ الْمُشْتَرَطُ قَالَ الْمُهَلَّبُ مَعْنَاهُ انْظُرْنَ مَا سَبَبُ هَذِهِ الْأُخُوَّةِ فَإِنَّ حُرْمَةَ الرَّضَاعِ إِنَّمَا هِيَ فِي الصِّغَرِ حَتَّى تَسُدَّ الرَّضَاعَةُ الْمَجَاعَةَ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي جَاعَ كَانَ طَعَامُهُ الَّذِي يُشْبِعُهُ اللَّبَنَ مِنَ الرَّضَاعِ لَا حَيْثُ يَكُونُ الْغِذَاءُ بِغَيْرِ الرَّضَاعِ قَوْلُهُ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ فِيهِ تَعْلِيلُ الْبَاعِثِ عَلَى إِمْعَانِ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ لِأَنَّ الرَّضَاعَةَ تُثْبِتُ النَّسَبَ وَتَجْعَلُ الرَّضِيعَ مُحَرَّمًا وَقَوْلُهُ مِنَ الْمَجَاعَةِ أَيِ الرَّضَاعَةِ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا الْحُرْمَةُ وَتَحِلُّ بِهَا الْخَلْوَةُ هِيَ حَيْثُ يَكُونُ الرَّضِيعُ طِفْلًا لِسَدِّ اللَّبَنِ جَوْعَتَهُ لِأَنَّ مَعِدَتَهُ ضَعِيفَةٌ يَكْفِيهَا اللَّبَنُ وَيَنْبُتُ بِذَلِكَ لَحْمُهُ فَيَصِيرُ كَجُزْءٍ مِنَ الْمُرْضِعَةِ فَيَشْتَرِكُ فِي الْحُرْمَةِ مَعَ أَوْلَادِهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا رَضَاعَةَ مُعْتَبَرَةٌ إِلَّا الْمُغْنِيَةَ عَنِ الْمَجَاعَةِ أَوِ الْمُطْعِمَةِ مِنَ الْمَجَاعَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى اطعمهم من جوع وَمن شواهده حَدِيث بن مَسْعُودٍ لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا شَدَّ الْعَظْمَ وَأَنْبَتَ اللَّحْمَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الرَّضْعَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تُحَرِّمُ لِأَنَّهَا لَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ وَإِذَا كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ فَأَوْلَى مَا يُؤْخَذُ بِهِ مَا قَدَّرَتْهُ الشَّرِيعَةُ وَهُوَ خَمْسُ رَضَعَاتٍ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّغْذِيَةَ بِلَبَنِ الْمُرْضِعَةِ يُحَرِّمُ سَوَاءٌ كَانَ بِشُرْبٍ أَمْ أَكْلٍ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَ حَتَّى الْوَجُورُ وَالسَّعُوطُ وَالثَّرْدُ وَالطَّبْخُ وَغَيْرُ ذَلِكَ إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ مِنَ الْعَدَدِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَطْرُدُ الْجُوعِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ فَيُوَافِقُ الْخَبَرَ وَالْمَعْنَى وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ لَكِنِ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الْحُقْنَةَ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ اللَّيْثُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ فَقَالُوا إِنَّ الرَّضَاعَةَ الْمُحَرِّمَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْتِقَامِ الثَّدْيِ وَمَصِّ اللَّبَنِ مِنْهُ وَأَوْرَدَ عَلِيُّ بْنُ حَزْمٍ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِمْ إِشْكَالٌ فِي الْتِقَامِ سَالِمٍ ثَدْيَ سَهْلَةَ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ فَإِنَّ عِيَاضًا أَجَابَ عَنِ الْإِشْكَالِ بِاحْتِمَالِ أَنَّهَا حَلَبَتْهُ ثُمَّ شَرِبَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ ثَدْيَهَا قَالَ النَّوَوِيُّ وَهُوَ احْتِمَالٌ حسن لكنه لَا يُفِيد بن حَزْمٍ لِأَنَّهُ لَا يُكْتَفَى فِي الرَّضَاعِ إِلَّا بِالْتِقَامِ الثَّدْيِ لَكِنْ أَجَابَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ عُفِيَ عَن ذَلِك للْحَاجة وَأما بن حَزْمٍ فَاسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ سَالِمٍ عَلَى جَوَازِ مَسِّ الْأَجْنَبِيِّ ثَدْيَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالْتِقَامِ ثَدْيِهَا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْتَضِعَ مِنْهَا مُطْلَقًا وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الرَّضَاعَةَ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي حَالِ الصِّغَرِ لِأَنَّهَا الْحَالُ الَّذِي يُمْكِنُ طَرْدَ الْجُوعِ فِيهَا بِاللَّبَنِ بِخِلَافِ حَالِ الْكِبَرِ وَضَابِطُ ذَلِكَ تَمَامُ الْحَوْلَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّرْجَمَةِ وَعَلَيْهِ دَلَّ حَدِيث بن عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ وَصَححهُ التِّرْمِذِيّ وبن حِبَّانَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْلُهُ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ تَثْبِيتُ قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ صَرِيحَةٍ فِي اعْتِبَارِ الرَّضَاعِ فِي الزَّمَنِ الَّذِي يُسْتَغْنَى بِهِ الرَّضِيعُ عَنِ الطَّعَامِ بِاللَّبَنِ وَيُعْتَضَدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ أَقْصَى مُدَّةِ الرَّضَاعِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ عَادَةً الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا فَمَا زَادَ عَلَيْهِ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عَادَةً فَلَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا إِذْ لَا حُكْمَ لِلنَّادِرِ وَفِي اعْتِبَارِ إِرْضَاعِ الْكَبِيرِ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الْمَرْأَةِ بِارْتِضَاعِ الْأَجْنَبِيِّ مِنْهَا لِاطِّلَاعِهِ عَلَى عَوْرَتِهَا وَلَوْ بِالْتِقَامِهِ ثَدْيَهَا قُلْتُ وَهَذَا الْأَخِيرُ عَلَى الْغَالِبِ وَعَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَشْتَرِطُ الْتِقَامَ الثَّدْيِ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ لَا تُفَرِّقُ فِي حُكْمِ الرَّضَاعِ بَيْنَ حَالِ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَتِهَا وَاحْتَجَّتْ هِيَ بِقِصَّةِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ فَلَعَلَّهَا فَهِمَتْ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ اعْتِبَارَ مِقْدَارِ مَا يَسُدُّ الْجَوْعَةَ مِنْ لَبَنِ الْمُرْضِعَةِ لِمَنْ يَرْتَضِعُ مِنْهَا وَذَلِكَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَضِعُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا فَلَا يَكُونُ الْحَدِيثُ نَصًّا فِي مَنْعِ اعْتِبَارِ رَضَاعِ الْكَبِيرِ وَحَدِيثُ بن عَبَّاسٍ مَعَ تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ لَيْسَ نَصًّا فِي ذَلِكَ وَلَا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ
الصفحة 148