كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 9)

عِنْد بن أَبِي دَاوُدَ وَالطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُحَرِّقُوا كُلَّ مُصْحَفٍ يُخَالِفُ الْمُصْحَفَ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ قَالَ فَذَلِكَ زَمَانُ حُرِّقَتِ الْمَصَاحِفُ بِالْعِرَاقِ بِالنَّارِ وَفِي رِوَايَةِ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ لَا تَقُولُوا لِعُثْمَانَ فِي إِحْرَاقِ الْمَصَاحِفِ إِلَّا خَيْرًا وَفِي رِوَايَةِ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ فَأَمَرَ بِجَمْعِ الْمَصَاحِفِ فَأَحْرَقَهَا ثُمَّ بَثَّ فِي الْأَجْنَادِ الَّتِي كَتَبَ وَمِنْ طَرِيقِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ أَدْرَكْتُ النَّاسَ مُتَوَافِرِينَ حِينَ حَرَّقَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ أَوْ قَالَ لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي قِلَابَةَ فَلَمَّا فَرَغَ عُثْمَانُ مِنَ الْمُصْحَفِ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ إِنِّي قَدْ صَنَعْتُ كَذَا وَكَذَا وَمَحَوْتُ مَا عِنْدِي فَامْحُوَا مَا عِنْدَكُمْ وَالْمَحْوُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالْغَسْلِ أَوِ التَّحْرِيقِ وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيقِ فَهُوَ الَّذِي وَقَعَ وَيُحْتَمَلُ وُقُوعُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِحَسْبِ مَا رَأَى مَنْ كَانَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ جَزَمَ عِيَاضٌ بِأَنَّهُمْ غَسَلُوهَا بِالْمَاءِ ثمَّ أحرقوها مُبَالغَة فِي إذهابها قَالَ بن بَطَّالٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ تَحْرِيقِ الْكُتُبِ الَّتِي فِيهَا اسْمُ اللَّهِ بِالنَّارِ وَأَنَّ ذَلِكَ إِكْرَامٌ لَهَا وَصَوْنٌ عَنْ وَطْئِهَا بِالْأَقْدَامِ وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ أَنَّهُ كَانَ يُحَرِّقُ الرَّسَائِلَ الَّتِي فِيهَا الْبَسْمَلَةُ إِذَا اجْتَمَعَتْ وَكَذَا فَعَلَ عُرْوَةُ وَكَرِهَهُ إِبْرَاهِيمُ وَقَالَ بن عَطِيَّةَ الرِّوَايَةُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَصَحُّ وَهَذَا الْحُكْمُ هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَأَمَّا الْآنَ فَالْغَسْلُ أَوْلَى لِمَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى إِزَالَتِهِ وَقَوْلُهُ وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ أَيْ بِمَا سِوَى الْمُصْحَفِ الَّذِي اسْتَكْتَبَهُ وَالْمَصَاحِفِ الَّتِي نُقِلَتْ مِنْهُ وَسِوَى الصُّحُفِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ حَفْصَةَ وَرَدَّهَا إِلَيْهَا وَلِهَذَا اسْتَدْرَكَ مَرْوَانُ الْأَمْرَ بَعْدَهَا وَأَعْدَمَهَا أَيْضًا خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ لِأَحَدٍ مِنْهَا تَوَهُّمُ أَنَّ فِيهَا مَا يُخَالِفُ الْمُصْحَفَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ كَمَا تَقَدَّمَ وَاسْتُدِلَّ بِتَحْرِيقِ عُثْمَانَ الصُّحُفَ عَلَى الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ كَلَامِ اللَّهِ قَدِيمًا أَنْ تَكُونَ الْأَسْطُرُ الْمَكْتُوبَةُ فِي الْوَرَقِ قَدِيمَةٌ وَلَوْ كَانَتْ هِيَ عَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ لَمْ يَسْتَجِزِ الصَّحَابَةُ إِحْرَاقَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ قَالَ بن شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ إِلَخْ هَذِهِ هِيَ الْقِصَّةُ الثَّالِثَة وَهِي مَوْصُولَة إِلَى بن شِهَابٍ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَاضِحًا وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَوْصُولَةً مُفْرَدَةً فِي الْجِهَادِ وَفِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ وَظَاهِرُ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ هَذَا أَنَّهُ فَقَدَ آيَةَ الْأَحْزَابِ مِنَ الصُّحُفِ الَّتِي كَانَ نَسَخَهَا فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى وَجَدَهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مجمع عَن بن شِهَابٍ أَنَّ فَقْدَهُ إِيَّاهَا إِنَّمَا كَانَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ وَهْمٌ مِنْهُ وَالصَّحِيحُ مَا فِي الصَّحِيحِ وَأَنَّ الَّذِي فَقَدَهُ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ بَرَاءَةٌ وَأَمَّا الَّتِي فِي الْأَحْزَابِ فَفَقَدَهَا لَمَّا كَتَبَ الْمُصحف فِي خلَافَة عُثْمَان وَجزم بن كثير بِمَا وَقع فِي رِوَايَة بن مجمع وَلَيْسَ كَذَلِك وَالله أعلم قَالَ بن التِّينِ وَغَيْرُهُ الْفَرْقُ بَيْنَ جَمْعِ أَبِي بَكْرٍ وَبَيْنَ جَمْعِ عُثْمَانَ أَنَّ جَمْعَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ لِخَشْيَةِ أَنْ يَذْهَبَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ بِذَهَابِ حَمَلَتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَجْمُوعًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَجَمَعَهُ فِي صَحَائِفَ مُرَتِّبًا لِآيَاتِ سُوَرِهِ عَلَى مَا وَقَفَهُمْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَمْعُ عُثْمَانَ كَانَ لَمَّا كَثُرَ الِاخْتِلَافُ فِي وُجُوهِ الْقُرْآنِ حِينَ قَرَءُوهُ بِلُغَاتِهِمْ عَلَى اتِّسَاعِ اللُّغَاتِ فَأَدَّى ذَلِكَ بِبَعْضِهِمْ إِلَى تَخْطِئَةِ بَعْضٍ فَخَشِيَ مِنْ تَفَاقُمِ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ فَنَسَخَ تِلْكَ الصُّحُفِ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ مُرَتِّبًا لِسُوَرِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ وَاقْتَصَرَ مِنْ سَائِرِ اللُّغَاتِ عَلَى لُغَةِ قُرَيْشٍ مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَسَّعَ فِي قِرَاءَتِهِ بِلُغَةِ غَيْرِهِمْ رَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ فَرَأَى أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ انْتَهَتْ فَاقْتَصَرَ عَلَى لُغَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَانَتْ لُغَةُ قُرَيْشٍ أَرْجَحُ اللُّغَاتِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهَا وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ بَعْدَ بَاب وَاحِد تَنْبِيه قَالَ بن مَعِينٍ لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ حَدِيثَ جَمْعِ الْقُرْآنِ أَحْسَنَ مِنْ سِيَاقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ وَقَدْ روى مَالك طرفا مِنْهُ عَن بن شهَاب

الصفحة 21