كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 9)

عَنْهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ قُلْتُ وَقَدْ أَزَالَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ مِنْ كَوْنِهَا لَمْ تُخَمَّسْ أَوْ كَانَتْ جَلَّالَةً أَوْ كَانَتِ انْتُهِبَتْ حَدِيثُ أَنَسٍ الْمَذْكُورُ قَبْلَ هَذَا حَيْثُ جَاءَ فِيهِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ وَكَذَا الْأَمْرُ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ قَوْلُهُ فَإِنَّهَا رِجْسٌ ظَاهِرٌ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى الْحُمُرِ لِأَنَّهَا الْمُتَحَدَّثُ عَنْهَا الْمَأْمُورُ بِإِكْفَائِهَا مِنَ الْقُدُورِ وَغَسْلِهَا وَهَذَا حُكْمُ الْمُتَنَجِّسِ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا وَهُوَ دَالٌّ عَلَى تَحْرِيمِهَا لِعَيْنِهَا لَا لِمَعْنًى خَارج وَقَالَ بن دَقِيق الْعِيد الْأَمر بإكفاء الْقُدُور ظَاهِرٌ أَنَّهُ سَبَبُ تَحْرِيمِ لَحْمِ الْحُمُرِ وَقَدْ وَرَدَتْ عِلَلٌ أُخْرَى إِنْ صَحَّ رَفْعُ شَيْءٍ مِنْهَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ لَكِنْ لَا مَانِعَ أَنْ يُعَلَّلَ الْحُكْمُ بِأَكْثَرَ مِنْ عِلَّةٍ وَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ وَأَمَّا التَّعْلِيلُ بِخَشْيَةِ قِلَّةِ الظَّهْرِ فَأَجَابَ عَنْهُ الطَّحَاوِيُّ بِالْمُعَارَضَةِ بِالْخَيْلِ فَإِنَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ النَّهْيَ عَنِ الْحُمُرِ وَالْإِذْنَ فِي الْخَيْلِ مَقْرُونًا فَلَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ لِأَجْلِ الْحَمُولَةِ لَكَانَتِ الْخَيْلُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ لِقِلَّتِهَا عِنْدَهُمْ وَعِزَّتِهَا وَشِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا وَالْجَوَابُ عَنْ آيَةِ الْأَنْعَامِ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَخَبَرُ التَّحْرِيمِ مُتَأَخِّرٌ جِدًّا فَهُوَ مُقَدَّمٌ وَأَيْضًا فَنَصُّ الْآيَةِ خَبَرٌ عَنِ الْحُكْمِ الْمَوْجُودِ عِنْدَ نُزُولِهَا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ نَزَلَ فِي تَحْرِيمِ الْمَأْكُولِ إِلَّا مَا ذُكِرَ فِيهَا وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَمْنَعُ أَنْ يَنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرُ مَا فِيهَا وَقَدْ نَزَلَ بَعْدَهَا فِي الْمَدِينَةِ أَحْكَامٌ بِتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ غَيْرِ مَا ذُكِرَ فِيهَا كَالْخَمْرِ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ وَفِيهَا أَيْضًا تَحْرِيمُ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةِ إِلَى آخِرِهِ وَكَتَحْرِيمِ السِّبَاعِ وَالْحَشَرَاتِ قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ بِتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ وَلَمْ نَجِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ خِلَافًا لَهُمْ الا عَن بن عَبَّاسٍ وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ ثَالِثُهَا الْكَرَاهَةُ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ غَالِبِ بْنِ الْحُرِّ قَالَ أَصَابَتْنَا سَنَةٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِي مَا أُطْعِمُ أَهْلِي إِلَّا سِمَانَ حُمُرٍ فَأَتَيْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنَّكَ حَرَّمْتَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَقَدْ أَصَابَتْنَا سَنَةٌ قَالَ أَطْعِمْ أَهْلَكَ مِنْ سَمِينِ حُمُرِكَ فَإِنَّمَا حَرَّمْتُهَا مِنْ أَجْلِ حَوَالَيِ الْقَرْيَةِ يَعْنِي الْجَلَّالَةَ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَالْمَتْنُ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أُمِّ نَصْرٍ الْمُحَارِبِيَّةِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَقَالَ أَلَيْسَ تَرْعَى الْكَلَأَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فأصب من لحومها وَأخرجه بن أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مُرَّةَ قَالَ سَأَلْتُ فَذَكَرَ نَحْوَهُ فَفِي السَّنَدَيْنِ مَقَالٌ وَلَوْ ثَبَتَا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ قَالَ الطَّحَاوِيُّ لَوْ تَوَاتَرَ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ لَكَانَ النَّظَرُ يَقْتَضِي حِلَّهَا لِأَنَّ كُلَّ مَا حُرِّمَ مِنَ الْأَهْلِيِّ أُجْمِعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ إِذَا كَانَ وَحْشِيًّا كَالْخِنْزِيرِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى حِلِّ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ فَكَانَ النَّظَرُ يَقْتَضِي حِلَّ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ قُلْتُ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ مَرْدُودٌ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْحَيَوَانِ الْأَهْلِيِّ مُخْتَلَفٌ فِي نَظِيرِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْوَحْشِيِّ كَالْهِرِّ وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الذَّكَاةَ لَا تُطَهِّرُ مَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ تَنَجَّسَ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ يَكْفِي غَسْلُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً لِإِطْلَاقِ الْأَمْرِ بِالْغَسْلِ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ بِالِامْتِثَالِ بِالْمَرَّةِ وَالْأَصْلُ أَنْ لَا زِيَادَةَ عَلَيْهَا وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ لِكَوْنِ الصَّحَابَةِ أَقْدَمُوا عَلَى ذَبْحِهَا وَطَبْخِهَا كَسَائِرِ الْحَيَوَانِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُسْتَأْمَرُوا مَعَ تَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ عَلَى السُّؤَالِ عَمَّا يُشْكِلُ وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِأَمِيرِ الْجَيْشِ تَفَقُّدُ أَحْوَالِ رَعِيَّتِهِ وَمَنْ رَآهُ فَعَلَ مَا لَا يَسُوغُ فِي الشَّرْعِ أَشَاعَ مَنْعَهُ إِمَّا بِنَفْسِهِ كَأَنْ يُخَاطِبَهُمْ وَإِمَّا بِغَيْرِهِ بِأَنْ يَأْمُرَ مُنَادِيًا فَيُنَادِيَ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ مَنْ رَآهُ فَيَظُنَّهُ جَائِزًا

الصفحة 656