كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 9)

الْأَطِبَّاءِ وَالْحُكَمَاءِ كَانُوا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ فَأَتَاهُمْ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِمْ بِمَا لَمْ تَصِلْ قُدْرَتُهُمْ إِلَيْهِ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْعَرَبُ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَايَةِ مِنَ الْبَلَاغَةِ جَاءَهُمْ بِالْقُرْآنِ الَّذِي تَحَدَّاهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ لَا صُورَةً وَلَا حَقِيقَةً بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ مِثْلٍ وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أُعْطِيَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مَا كَانَ مِثْلُهُ لِمَنْ كَانَ قَبْلَهُ صُورَةً أَوْ حَقِيقَةً وَالْقُرْآنُ لَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ قَبْلَهُ مِثْلَهُ فَلِهَذَا أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي أُوتِيتُهُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ تخيل وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ مُعْجِزٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَتَخَيَّلُ مِنْهُ التَّشْبِيهَ بِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَقَعُ فِي مُعْجِزَاتِهِمْ مَا يَقْدِرُ السَّاحِرُ أَنْ يُخَيِّلَ شَبَهَهُ فَيَحْتَاجُ مَنْ يُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا إِلَى نَظَرٍ وَالنَّظَرُ عُرْضَةٌ لِلْخَطَأِ فَقَدْ يُخْطِئُ النَّاظِرُ فَيَظُنُّ تَسَاوِيَهُمَا وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ انْقَرَضَتْ بِانْقِرَاضِ أَعْصَارِهِمْ فَلَمْ يُشَاهِدْهَا إِلَّا مَنْ حَضَرَهَا وَمُعْجِزَةُ الْقُرْآنِ مُسْتَمِرَّةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَخَرْقُهُ لِلْعَادَةِ فِي أُسْلُوبِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَإِخْبَارِهِ بِالْمَغِيبَاتِ فَلَا يَمُرُّ عَصْرٌ مِنَ الْأَعْصَارِ إِلَّا وَيَظْهَرُ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ أَنَّهُ سَيَكُونُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ وَهَذَا أَقْوَى الْمُحْتَمَلَاتِ وَتَكْمِيلُهُ فِي الَّذِي بَعْدَهُ وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ الْمَاضِيَةَ كَانَتْ حِسِّيَّةً تُشَاهَدُ بِالْأَبْصَارِ كَنَاقَةِ صَالِحٍ وَعَصَا مُوسَى وَمُعْجِزَةُ الْقُرْآنِ تُشَاهَدُ بِالْبَصِيرَةِ فَيَكُونُ مَنْ يَتْبَعُهُ لِأَجْلِهَا أَكْثَرُ لِأَنَّ الَّذِي يُشَاهَدُ بِعَيْنِ الرَّأْسِ يَنْقَرِضُ بِانْقِرَاضِ مُشَاهِدِهِ وَالَّذِي يُشَاهَدُ بِعَيْنِ الْعَقْلِ بَاقٍ يُشَاهِدُهُ كُلُّ مَنْ جَاءَ بَعْدَ الْأَوَّلِ مُسْتَمِرًّا قُلْتُ وَيُمْكِنُ نَظْمُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ مُحَصَّلَهَا لَا يُنَافِي بَعْضُهُ بَعْضًا قَوْلُهُ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَتَّبَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ الْمُسْتَمِرَّةِ لِكَثْرَةِ فَائِدَتِهِ وَعُمُومِ نَفْعِهِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الدَّعْوَةِ وَالْحُجَّةِ وَالْإِخْبَارِ بِمَا سَيَكُونُ فَعَمَّ نَفْعُهُ مَنْ حَضَرَ وَمَنْ غَابَ وَمَنْ وُجِدَ وَمَنْ سَيُوجَدُ فَحَسُنَ تَرْتِيبُ الرَّجْوَى الْمَذْكُورَةِ عَلَى ذَلِكَ وَهَذِهِ الرَّجْوَى قَدْ تَحَقَّقَتْ فَإِنَّهُ أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَعَلَّقَ هَذَا الْحَدِيثُ بِالتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا نَزَلَ بِالْوَحْيِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْمَلَكُ لَا بِالْمَنَامِ وَلَا بِالْإِلْهَامِ وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُهُمْ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا حُسْنُ تَأْلِيفِهِ وَالْتِئَامُ كَلِمِهِ مَعَ الْإِيجَازِ وَالْبَلَاغَةِ ثَانِيهَا صُورَةُ سِيَاقِهِ وَأُسْلُوبِهِ الْمُخَالِفِ لِأَسَالِيبِ كَلَامِ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ مِنَ الْعَرَبِ نَظْمًا وَنَثْرًا حَتَّى حَارَتْ فِيهِ عُقُولُهُمْ وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ مِثْلِهِ مَعَ تَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ وَتَقْرِيعِهِ لَهُمْ عَلَى الْعَجْزِ عَنْهُ ثَالِثُهَا مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَمَّا مَضَى مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَالشَّرَائِعِ الدَّاثِرَةِ مِمَّا كَانَ لَا يَعْلَمُ مِنْهُ بَعْضَهُ إِلَّا النَّادِرُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ رَابِعُهَا الْإِخْبَارُ بِمَا سَيَأْتِي مِنَ الْكَوَائِنِ الَّتِي وَقَعَ بَعْضُهَا فِي الْعَصْرِ النَّبَوِيِّ وَبَعْضُهَا بَعْدَهُ وَمِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ آيَاتٌ وَرَدَتْ بِتَعْجِيزِ قَوْمٍ فِي قَضَايَا أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَهَا فَعَجَزُوا عَنْهَا مَعَ تَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ كَتَمَنِّي الْيَهُودِ الْمَوْتَ وَمِنْهَا الرَّوْعَةُ الَّتِي تَحْصُلُ لِسَامِعِهِ وَمِنْهَا أَنَّ قَارِئَهُ لَا يَمَلُّ مِنْ تَرْدَادِهِ وَسَامِعَهُ لَا يَمُجُّهُ وَلَا يَزْدَادُ بِكَثْرَةِ التَّكْرَارِ إِلَّا طَرَاوَةً وَلَذَاذَةً وَمِنْهَا أَنَّهُ آيَةٌ بَاقِيَةٌ لَا تُعْدَمُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا وَمِنْهَا جَمْعُهُ لِعُلُومٍ وَمَعَارِفَ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهَا وَلَا تَنْتَهِي فَوَائِدُهَا اه مُلَخَّصًا مِنْ كَلَامِ عِيَاضٍ وَغَيْرِهِ الْحَدِيثُ الْخَامِسُ قَوْلُهُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ النَّاقِدُ وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ النَّاقِدِ وَغَيْرِهِ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَوَقَعَ فِي الْأَطْرَافِ لِخَلَفٍ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيِّ الْفَلَّاسُ وَرَأَيْتُ فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ عَنِ الْبُخَارِيِّ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ وَأَظُنُّهُ تَصْحِيفًا وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فَإِنَّ الثَّلَاثَةَ وَإِن كَانُوا

الصفحة 7