كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 9)

أشعب فَقَالَ غن بن أَخِي مَا بَلَغَ مِنْ طَمَعِكَ فَذَكَرَ قِصَّةً فَقَوْلُهُ غَنِّ أَيْ أَخْبِرْنِي جَهْرًا صَرِيحًا وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ أُحِبُّ الْمَكَانَ الْقَفْرَ مِنْ أَجْلِ أَنَّنِي بِهِ أَتَغَنَّى بِاسْمِهَا غَيْرَ مُعْجِمٍ أَيْ أَجْهَرُ وَلَا أُكَنِّي وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَكْثَرِ التَّأْوِيلَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَهُوَ أَنَّهُ يُحَسِّنُ بِهِ صَوْتَهُ جَاهِرًا بِهِ مُتَرَنِّمًا عَلَى طَرِيقِ التَّحَزُّنِ مُسْتَغْنِيًا بِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ طَالِبًا بِهِ غِنَى النَّفْسِ رَاجِيًا بِهِ غِنَى الْيَدِ وَقَدْ نَظَمْتُ ذَلِكَ فِي بَيْتَيْنِ تَغَنَّ بِالْقُرْآنِ حَسِّنْ بِهِ الصَّوْتَ حَزِينًا جَاهِرًا رَنِّمِ وَاسْتَغْنِ عَنْ كُتْبِ الْأُلَى طَالِبًا غِنَى يَدٍ وَالنَّفْسِ ثُمَّ الْزَمِ وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِحُسْنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ فِي تَرْجَمَةٍ مُفْرَدَةٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ النُّفُوسَ تَمِيلُ إِلَى سَمَاعِ الْقِرَاءَةِ بِالتَّرَنُّمِ أَكْثَرَ مِنْ مَيْلِهَا لِمَنْ لَا يَتَرَنَّمُ لِأَنَّ لِلتَّطْرِيبِ تَأْثِيرًا فِي رِقَّةِ الْقَلْبِ وَإِجْرَاءِ الدَّمْعِ وَكَانَ بَيْنَ السَّلَفِ اخْتِلَافٌ فِي جَوَازِ الْقُرْآنِ بِالْأَلْحَانِ أَمَّا تَحْسِينُ الصَّوْتِ وَتَقْدِيمُ حُسْنِ الصَّوْتِ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا نِزَاعَ فِي ذَلِكَ فَحَكَى عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ عَنْ مَالِكٍ تَحْرِيمَ الْقِرَاءَةِ بِالْأَلْحَانِ وَحَكَاهُ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وبن حَمْدَانَ الْحَنْبَلِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَحكى بن بَطَّالٍ وَعِيَاضٌ وَالْقُرْطُبِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَصَاحِبُ الذَّخِيرَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ الْكَرَاهَة وَاخْتَارَهُ أَبُو يعلى وبن عقيل من الْحَنَابِلَة وَحكى بن بَطَّالٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الْجَوَازَ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ وَنَقَلَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَقَالَ الفوراني من الشَّافِعِيَّة فِي الْإِبَاحَة يَجُوزُ بَلْ يُسْتَحَبُّ وَمَحَلُّ هَذَا الِاخْتِلَافِ إِذَا لَمْ يَخْتَلَّ شَيْءٌ مِنَ الْحُرُوفِ عَنْ مَخْرَجِهِ فَلَوْ تَغَيَّرَ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي التِّبْيَانِ أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَلَفْظُهُ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَحْسِينِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الْقِرَاءَةِ بِالتَّمْطِيطِ فَإِنْ خَرَجَ حَتَّى زَادَ حَرْفًا أَوْ أَخْفَاهُ حَرُمَ قَالَ وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ عَلَى كَرَاهَتِهِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَا بَأْسَ بِهِ فَقَالَ أَصْحَابُهُ لَيْسَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ بَلْ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِالْأَلْحَانِ عَلَى الْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ جَازَ وَإِلَّا حَرُمَ وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالْأَلْحَانِ إِذَا انْتَهَتْ إِلَى إِخْرَاجِ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ عَنْ مخارجها حرم وَكَذَا حكى بن حَمْدَانَ الْحَنْبَلِيُّ فِي الرِّعَايَةِ وَقَالَ الْغَزَالِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيُّ وَصَاحِبُ الذَّخِيرَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ لَمْ يُفْرِطْ فِي التَّمْطِيطِ الَّذِي يُشَوِّشُ النَّظْمَ اسْتُحِبَّ وَإِلَّا فَلَا وَأَغْرَبَ الرَّافِعِيُّ فَحَكَى عَنْ أَمَالِي السَّرَخْسِيِّ أَنه لَا يضر التمطيط مُطلقًا وَحَكَاهُ بن حَمْدَانَ رِوَايَةً عَنِ الْحَنَابِلَةِ وَهَذَا شُذُوذٌ لَا يُعَرَّجُ عَلَيْهِ وَالَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنَ الْأَدِلَّةِ أَنَّ حُسْنَ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مَطْلُوبٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حسنا فليحسنه مَا اسْتَطَاعَ كَمَا قَالَ بن أَبِي مُلَيْكَةَ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ وَقَدْ أَخْرَجَ ذَلِكَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَمِنْ جُمْلَةِ تَحْسِينِهِ أَنْ يُرَاعِيَ فِيهِ قَوَانِينَ النَّغَمِ فَإِنَّ الْحَسَنَ الصَّوْتِ يَزْدَادُ حُسْنًا بِذَلِكَ وَإِنْ خَرَجَ عَنْهَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي حُسْنِهِ وَغَيْرُ الْحَسَنِ رُبَّمَا انْجَبَرَ بِمُرَاعَاتِهَا مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ شَرْطِ الْأَدَاءِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَ أَهْلِ الْقِرَاءَاتِ فَإِنْ خَرَجَ عَنْهَا لَمْ يَفِ تَحْسِينُ الصَّوْتِ بِقُبْحِ الْأَدَاءِ وَلَعَلَّ هَذَا مُسْتَنَدُ مَنْ كَرِهَ الْقِرَاءَةَ بِالْأَنْغَامِ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى مَنْ رَاعَى الْأَنْغَامَ أَنْ لَا يُرَاعِيَ الْأَدَاءَ فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يُرَاعِيهِمَا مَعًا فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالْمَطْلُوبِ مِنْ تَحْسِينِ الصَّوْتِ وَيَجْتَنِبُ الْمَمْنُوعَ مِنْ حُرْمَةِ الْأَدَاءِ وَالله أعلم

الصفحة 72