كتاب التفسير الوسيط لطنطاوي (اسم الجزء: 9)

مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ.. «1» .
وقوله- سبحانه-: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ «2» .
قال الإمام ابن كثير: «وفي الحديث الصحيح- الذي يرويه النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ربه:
«يقول الله- تعالى- كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذيني. أما تكذيبه لي فقوله: لن يعيدني كما بدأنى، وليس أول الخلق أهون على من آخره.
وأما أذاه إياى فقوله: «إن لي ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» .
ثم عقب- سبحانه- على هذا التوبيخ والتقريع لهذا الإنسان الجاحد، بقسم منه- سبحانه- على وقوع البعث والنشور، فقال: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ، ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا.
والحشر: الجمع. يقال: حشر القائد جنده، إذا جمعهم.
والمراد بالشياطين: أولئك الأشرار الذين كانوا في الدنيا يوسوسون لهم بإنكار البعث.
أى: أقسم لك بذاتى- أيها الرسول الكريم- أن هؤلاء المنكرين للبعث لنجمعنهم جميعا يوم القيامة للحساب والجزاء، ولنجمعن معهم الشياطين الذين كانوا يضلونهم في الدنيا.
قالوا: وفائدة القسم أمران: أحدهما: أن العادة جارية بتأكيد الخبر باليمين، والثاني: أن في إقسام الله- تعالى- باسمه، مضافا إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم رفعا منه لشأنه، كما رفع من شأن السموات والأرض في قوله- تعالى-: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ «3» .
وقوله: ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا تصوير حسى بليغ لسوء مصيرهم، ونكد حالهم.
وجِثِيًّا جمع جاث وهو الجالس على ركبتيه. يقال: جثا فلان يجثو ويجثى جثوا وجثيا فهو جاث إذا جلس على ركبتيه، أو قام على أطراف أصابعه. والعادة عند العرب أنهم إذا كانوا في موقف شديد، وأمر ضنك جثوا على ركبهم.
__________
(1) سورة يس الآيتان 78، 79.
(2) سورة الواقعة الآية 62.
(3) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 72.

الصفحة 58