كتاب التفسير الوسيط لطنطاوي (اسم الجزء: 9)

أظهرها، وأقربها إلى سياق الآيات الكريمة، فإن قوله- تعالى- بعد ذلك: إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى بيان للحكمة التي من أجلها أنزل الله- تعالى- هذا القرآن.
أى: ما أنزلنا عليك يا محمد هذا القرآن لتتعب من فرط تأسفك على كفر الكافرين، وإنما أنزلناه من أجل أن يكون تَذْكِرَةً أى موعظة تلين لها قلوب من يخشى عقابنا، ويخاف عذابنا، ويرجو ثوابنا.
وما دام الأمر كذلك فامض في طريقك، وبلغ رسالة ربك، ثم بعد ذلك لا تتعب نفسك بسبب كفر الكافرين، فإنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء.
وخص- سبحانه- التذكرة بمن يخشى دون غيره، لأن الخائف من عذاب الله- تعالى- هو وحده الذي ينتفع بهدايات القرآن الكريم وآدابه وتوجيهاته وأحكامه ووعده ووعيده.. كما قال- تعالى-: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ وكما قال- سبحانه-: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها أى: الساعة.
ثم بين- سبحانه- مصدر القرآن الذي أنزله- تعالى- للسعادة لا للشقاء فقال:
تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى.
وقوله تَنْزِيلًا منصوب بفعل مضمر دل عليه قوله ما أَنْزَلْنا ... أى: نزل هذا القرآن تنزيلا ممن خلق الأرض التي تعيشون عليها، وممن خلق السموات العلى، أى:
المرتفعة. جمع العليا ككبرى وكبر، وصغرى وصغر.
ثم مدح- سبحانه- ذاته بقوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى أى: الرحمن- عز وجل- استوى على عرش ملكه استواء يليق بذاته بلا كيف أو تشبيه، أو تمثيل.
قال الإمام مالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
وقد ذكر لفظ العرش في إحدى وعشرين آية من آيات القرآن الكريم.
قال بعض العلماء: «أما الاستواء على العرش فذهب سلف الأمة- ومنهم الأئمة الأربعة- إلى أنه صفة لله- تعالى- بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل لاستحالة اتصافه- تعالى- بصفات المحدثين، ولوجوب تنزيهه- تعالى- عما لا يليق به: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وأنه يجب الإيمان بها كما وردت، وتفويض العلم بحقيقتها إليه- تعالى-.. «1» .
__________
(1) تفسير صفوة البيان ج 1 ص 293 لفضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف.

الصفحة 87