كتاب العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (اسم الجزء: 9)

وحديث هشام عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة أشدُّ إعلالاً؛ لأن الرواة عن أبي هريرة كثرةٌ عظيمة، يَزيدون على ثمانِ مئة، ثم عن محمد بن سيرين، فتفرُّدُ محمد بن سيرين بمثلِ هذا عن أبي هريرة، ثم تفرُّد هشامٍ عن محمد غريبٌ جداً؛ لأن مغفرة الذنوب بذلك مستغربة مستنكرة في طباع المشددين، ولذلك أنكرها المبتدعة بآرائهم، بل أوجب تأويلها كثيرٌ من كبراء أهل السنة بمجرد الطبيعة مع موافقتها لأُصولهم، مثل ابن عبد البر وغيره، وقد كان من عمر بن الخطاب مع أبي هريرة في ذلك ما يأتي ذكره، فلو ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك استثناءً، لم يَغْفُلْ عنه أحدٌ قط.
فإن قلت: وكذلك الاستثناء لا يغترُّ به أحد.
قلت: بل قد يجوز في أهل الورع، والطبيعة الغليظة الغالبة أن تقطع على أن (¬1) ذلك هو مُرادُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو يسمع أنه تأويل قوله، فيستثني هو من عند نفسه، ولا يقصد روايته، فيحسَبُه السامع من الحديث، وهو الذي يسمى المُدْرَجَ، أو يقصد إيهام ذلك، لأنه عنده حقٌّ، وقد نَسَبَ ابن عبد البر تعمُّدَ مثل هذا إلى الزهري، بل قال في موضعين من " تمهيده ": إن الزهري كثيراً ما يفعل ذلك، وخاصة مثل عمرو بن سعيد، فإنه يخاف التكذيب إن لم يَسْتَثْنِ ذلك أو أن يُتَّهَمَ، ويحتمل أن هشاماً ما سَمِعَ هذه الزيادة إلاَّ في حديث عمرو بن سعيد فتوهَّمها في الحديثين معاً خصوصاً (¬2) إن كان روى الحديثين، والحامل على الإصغاء إلى هذه الاحتمالات مخالفة الأكثرين من الثقات فيما لا يُحتملُ غفلتهم عنه من المهمات والله أعلم.
وليس القصد أنه يحصُلُ لأحدٍ بهذه المبشرات القطع بالغفران والأمان المطلق لجهل الخواتم وتخويف الله تعالى الصالحين حيث قال: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج: 27 - 28]، ولكن القصد بيان الصحيح من الرواية، وقد تقدمت الروايات المخالفات لهذه
¬__________
(¬1) في (ش): " بأن ".
(¬2) في (ف): " وخصوصاً ".

الصفحة 129