كتاب العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (اسم الجزء: 9)

وقد ثبت أن الدنيا دار بعض الجزاء، أما للمؤمنين، فعلى ذنوبهم، كما ورد في الأحاديث الصحاح، وستأتي، ويشهد لها من كتاب الله قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [آل عمران: 165]، وقوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُون} [الروم: 36]، وكذا قد تقدم لهم شيءٌ من ثوابهم لقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} [النحل: 97].
وفي هذا آياتٌ كثيرةٌ قد ذكرتُها في غير هذا الموضع، وأما الكفار فهم على العكس من حال المؤمنين، لا يُجْزَوْنَ في الآخرة بشيءٍ من حسناتهم، بل جزاؤهم عليها تقدم في حياتهم الدنيا إن كان لهم عليها أجرٌ، وقد ورد بذلك خبرٌ مرفوعٌ رواه مسلم في التوبة، عن أبي بكر، وزهير، وأحمد في " المسند " ثلاثتهم، عن يزيد بن هارون، عن همام بن يحيى، [عن قتادة]، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولفظه: " إن الله لا يظلم المؤمن حسنةً يُعْطَى عليها في الدنيا، ويُثابُ عليها في الآخرة، وأما الكافر فيُطعَمُ بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنةٌ يُعطى بها خيراً " (¬1) تفرد به مسلم وإسناده على شرط الجماعة كلهم.
وقد قال الله تعالى في هذا المعنى: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت: 27]، لأن سيئات المؤمنين مُكَفَّرةٌ فلم يُجْزَوا إلاَّ بأحسنَ، وحسنات الكافرين مُحْبَطَة فلم يجزوا إلاَّ بالأسوأ، ومثل ذلك قوله تعالى فيهم: {وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} [الزمر: 48]، فثبت أن الدنيا دارٌ لبعض الجزاء، أما المؤمن فبسيئاته إن لم تُغفر، وشيءٍ قليلٍ من ثواب حسناته، وأما الكافر فبحسناته إن
¬__________
(¬1) أخرجه أحمد 3/ 123 و283، ومسلم (2808)، والطيالسي (2011)، وابن حبان (377)، والبغوي (4118).

الصفحة 157