كتاب العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (اسم الجزء: 9)

لم تُحْبَطْ بالمرَّة، وشيءٍ قليلٍ من عقابه، وهو الذي سمَّاه الله تعالى في كتابه بالعذاب الأدنى حيث قال سبحانه: {ولَنُذِيقَنَّهُم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} عكس هذا قوله تعالى فيمن لَطَفَ به: {كذلك يُتِمُّ نعمته عليكم لعلكم تسلمون} [النحل: 81] فلله الحكمة البالغة وهو أعلم بما يُصْلِحُ عباده، وبما يستحقونه من العقوبات، أو الملاطفات، أو المسامحات، ولا قاطع بأيدي الخصوم يرفع هذه النصوص في تكفير ذنوب بعض المؤمنين في الدنيا كما جاء في تفسير قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيم} [النحل: 47].
الوجه الثالث من الجواب: وهو التحقيق أنه لا معارضة بين الآيتين بل قوله تعالى: {إن تجتنبوا} [النساء: 31]، بيان حكم المجتنبين، وليس فيه ذكرٌ لحكم مرتكبي الكبائر.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48] بيان حكم مرتكبي الكبائر الذي لم يُبين في الآية الأولى إلاَّ من طريق مفهوم المخالفة، فإن المفهوم منها أن حكم المرتكبين يخالف حكم المجتنبين على سبيل الإجمال، وليس من شرط المخالفة أن يستوي جميع أهل الكبائر في الأحكام، فإن أحكامهم مختلفة بالإجماع في الدنيا والآخرة، وليس حكم الشرك وأهله حكم المرتكبين لشيءٍ مما دونه من الكبائر وأهلها عند أحدٍ إلاَّ الخوارج الموارق، وقد قال الخليل عليه السلام: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، فلم يلزم في من عصاه أن يكون مقطوعاً له بنقيض ذلك، بل اكتفى في مخالفته لمن يتبعُه (¬1) بأنه في حكم المشيئة، ومتبعه مقطوعٌ له بالنجاة، ومدارُ حجتهم على صحة مفهوم المخالفة، وصحته ظنيةٌ، وكيف يبنون على الظن مسألة قطعية.
¬__________
(¬1) في الأصول: " لمن اتبعه ".

الصفحة 158