كتاب العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (اسم الجزء: 9)

حذفِه، فلو ذكره في الأول، وحذفه في الثاني لكان فصيحاً، لأن ذكره في الأول قرينةٌ متقدمة تُسَوِّغُ حذفه في الثاني لتقدُّمِ دلالتها على الحذف، كما لو قال: نحن راضون بما عندنا وأنت بما عندك، أي: وأنت بما عندَك راضٍ، وكل صحيح الذوق يعرف صحة كلامهم هذا، وإنما وقع الشاعر فيما وقع فيه لضرورة الشعر، وهذا في العمدة (¬1) التي حذفها قرينةٌ ضرورية تُوجب تَطَلُّبَ التأويل والإضمار.
وأما قوله في الآية: {لمن يشاء}، فليس بعمدةٍ في الكلام في عرفهم ومعنى هذا: أنه لو حذفها، لكان ما قبله كلاما صحيحاً (¬2) مستقلاًّ بنفسه لا يتوقفُ فهمه عليه، فلا يصحُّ أن يضمر فيه ما لم تدل عليه قرينةٌ متقدمةٌ، لأنه يَغْلَطُ السامع في معناه، ولا يعلم ما أضمره المتكلم من غير قرينةٍ إلاَّ الله، والكلامُ إنما وُضِعَ لإيضاح المعاني، خصوصاً الكلام البليغ، لأن البلاغة: بلوغُ المتكلم إلى مراده بأوضح عبارة، فمتى وقع الإضمارُ فيما ليس بعمدةٍ من غير قرينة متقدمةٍ كان من قبيل الإلْغازِ والتعميةِ للمقاصد، بل لو كانت الآية على العكس من كلامه -فقد ذكر المشيئة في الجملة الأولى، وحذفه في الثانية- ما دلَّ على كلامه، كما لو قال: إن الله يغفر ما دون أن يشرك به لمن يشاء، ولا يغفر أن يُشْرَكَ به، وإنما كان لا يدلُّ حينئذٍ على ما ادعى، ولا يكونُ تقدم ذكر المشيئة قرينةً، لِمَا ذكرنا من أن ذكر المشيئة غير عُمدةٍ في الكلام، بل ما قبله كلامٌ تام، وما بعده كذلك والسرُّ في هذا: أن الإضمار خلافُ الظاهر، فلا يُصارُ إليه إلاَّ لضرورةٍ ودلالةٍ على تعيين ما أضمر، وإلا لادَّعى كلُّ أحدٍ ما شاء من تأويلٍ وصحةَ تأويلات الباطنية، وانفتحت أبوابُ الجهالات في تأويل القرآن، وذلك أعظم أسباب (¬3) الفساد، لأن القرآن هو الفاروقُ الأعظمُ بين المُحقين والمُبطلين، فمتى صح للمبطلين انفتاحُ باب التأويلات الباطلة، لم يُنْتَفَعْ بما
¬__________
(¬1) في (د) و (ف): " العمد ".
(¬2) في (ف): " فصيحاً ".
(¬3) في (ش): " أبواب ".

الصفحة 172