كتاب العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (اسم الجزء: 9)
الصَّابر، فلا إطلاقَ فيها، بل يكون بعض الأغنياء أفضل من بعض الفقراء، لتعاظُمِ صدقاته وخيراته، كما جاء في حديث: " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ " لمَّا شكى الفقراء أن الأغنياء عملوا مثل عملهم، وزادوا عليهم بالصدقات والعِتْقِ ونحو ذلك. وهو حديث صحيح (¬1)، ولكن الغنى الذي يعمل ذلك قليلٌ، وقد يكون بعض الفقراءِ أفضل، وهو الأكثر، لِمَا ورد من الأحاديث، فإنها خرحت مخرج الأكثر لمَّا كان المال حين يحصل (¬2) محبوباً: {وأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128]، كما قال تعالى، ولذلك استعاذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فتنة الفقر، وفتنة الغنى، ولأن الحلال قليلٌ ولعلَّ المكثرين غيرُ محلِّين.
وفي " البخاري " (¬3)، عن خولة الأنصارية، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " إن رجالاً يتخوَّضُونَ في مال الله بغير حقٍّ، فلهم النار يوم القيامة ".
وقد تقدم الكلام على هذا في أول الكتاب. وقد تكلم القرطبي على ذلك في " تذكرته " (¬4) وأجاد، ويشهد لما ذكرتُه من التفضيل حديث أبي ذرٍّ المشهور في ذلك، خرَّجه البخاري ومسلمٌ من حديث عبد العزيز بن رُفَيعٍ، عن زيد بن وهبٍ، عن أبي ذرٍّ، قال: خرجتُ ليلةً من الليالي، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي وحده، فظننتُ أنه يكرهُ أن يمشي معه أحدٌ، فجعلتُ أمشي في ظلِّ القمر، فالتفتَ، فرآني، فقال: " من هذا؟ "، قلت: أبو ذرٍّ -جعلني الله فداك- قال: " يا أبا ذرّ تعاله ". فمشيت معه ساعةً، فقال: " إن المُكثِرِيَن هم المقلُّون يوم القيامة إلاَّ من أعطاهُ الله خيراً، فنفخ فيه يمينه، وشماله، وبين يديه، ووراءه، وعمل فيه خيراً ". الحديث (¬5).
¬__________
(¬1) تقدم تخريجه 8/ 192.
(¬2) " حين يحصل " ساقطة من (ش).
(¬3) برقم (3118)، وأخرجه بنحوه الترمذي (2375).
(¬4) ص 469 - 473.
(¬5) أخرجه البخاري (6443)، ومسلم (94)، وانظر تمام تخريجه عند ابن حبان (170) و (195).