كتاب العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (اسم الجزء: 9)
وما أُحِبُّ أن لي بها مشهدَ بدرٍ، وإن كانت بدرٌ أذكرَ في الناس منها، وكان من خبري حين تخلَّفتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك: أنِّي لم أكن قطُّ أقوى ولا أيسر منِّي حين تخلَّفتُ عنه في تلك الغزوة والله ما جمعتُ راحلتين حتى جمعتُهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريدُ غزوةً إلاَّ ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حرٍّ شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، واستقبل عدوَّاً كثيراً، فجَلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهَّبوا أُهْبَةَ غزوِهم، فأخبرهم بوجههمُ الذي يريدُ، والمسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرٌ، ولا يجمعُهم كتابٌ حافظٌ -يريد بذلك الديوان- فقلَّ رجلٌ يريد أن يتغيَّب إلاَّ ظنَّ أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحيٌ من الله تعالى، وغزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الغزوة حين طابت الثِّمار والظِّلالُ، فأنا إليها أصعَرُ، فتجهَّزَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه، فطفِقْتُ أغدو لكي أتجهَّزَ معه، فأرجِعُ ولم أقضِ شيئاً، وأقول في نفسي: أنا قادرٌ على ذلك إذا أردتُ، فلم يزَلْ ذلك يتمادى بي حتَّى استمرَّ بالناس الجدُّ، فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غادياً والمسلمون معه، ولم أقضِ من جَهازي شيئاً، ثم غدوت، فرجعتُ ولم أقضِ شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغَزوُ، فهممتُ أن أرتحلَ فأدركَهم، فيا ليتني فعلت، ثم لم يُقدَّرْ ذلك لي، فطفِقْتُ إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَحزُنُني أنِّي لا أرى لي أُسوةً إلاَّ رجلاً مغموصاً عليه في النِّفاق، أو رجلاً مِمَّن عذَرَ الله تعالى من الضُّعفاء، ولم يذكرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالسٌ في القوم بتبوك: " ما فعل كعبُ بنُ مالكٍ؟ ". فقال رجلٌ من بني سَلِمَةَ: يا رسول الله، حبسه بُرداه، والنَّظر في عِطْفَيْهِ، فقال له معاذُ بنُ جبلٍ رضي الله عنه: بئس ما قلت، والله يا رسول الله، ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبينما هو على ذلك، رأى رجلاً مُبيِّضاً يزول به السَّرابُ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كُنْ أبا خيثمة "، فإذا هو أبو خيثمةَ الأنصاريُّ، وهو الذي تصدَّق بصاع التمر حين لمزه المنافقون.
قال كعبٌ: فلمَّا بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد توجَّه قافلاً من تبوك، حضرني
الصفحة 398
408