كتاب العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (اسم الجزء: 9)
بثِّي، فطَفِقْتُ أتذكَّرُ الكَذِبَ، وأقول: بم أخرُجُ من سَخَطِه غداً؟ وأستعينُ على ذلك بكلِّ ذي رأيٍ مِنْ أهلي، فلما قيل: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أظَلَّ قادماً، زاح عنِّي الباطل، حتى عرفتُ أنِّي لن أنجوَ منه بشيءٍ أبداً، فأجمعتُ صدقَهُ، وأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قادماً، وكان إذا قَدِمَ من سفرٍ بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك، جاءه المخلَّفُون يعتذِرُون إليه، ويحلِفُونَ له، وكانوا بضعاً وثمانين رجُلاً، فقَبِلَ منهم علانيَّتهم، وبايعهم، واستغفرَ لهم الله، ووكَلَ سرائِرَهم إلى الله تعالى، حتى جئتُ، فلمَّا سلَّمتُ تبسَّم تبسُّمَ المغضَبِ، ثم قال: " تعالَ "، فجئتُ أمشي حتى سلَّمتُ عليه، وجلستُ بينَ يديه، فقال لي: " ما خلَّفَكَ؟ ألم تكن قدِ ابتَعْتَ ظهرَكَ؟ " قال: قلت: يا رسول الله، إنِّي -والله- لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيتُ أني سأخرُج من سَخَطِه بعُذْرٍ، ولقد أعطيتُ جَدَلاً، ولكنِّي [والله] لقد علمتُ، لَئِنْ حدَّثتُك اليوم حديثَ كَذِبٍ ترضى به عنِّي، ليوشِكَنَّ الله أن يُسخِطَكَ عليَّ، وإن حدَّثتُك حديثَ صدقٍ تجِدُ عليَّ فيه، إنِّي لأرجو فيه عُقبَى الله عز وجل، والله ما كان لي من عُذْرٍ، والله ما كنتُ قطُّ أقوى ولا أيسرَ مِنِّي حين تخلَّفتُ عنك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أما هذا، فقد صدق فقُم حتى يقضِيَ اللهُ فيكَ "، وثار رِجالٌ من بني سَلِمَة، فاتَّبعوني، فقالوا لي: والله علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا، لقد عَجَزْتَ في ألاَّ تكونَ اعتذرتَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما اعتذرَ إليه المخَلَّفُون، فقد كان كافِيَك ذنبَك استغفارُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكَ قال: فوالله ما زالوا يُؤنِّبُونَني حتَّى أردتُ أن أرجِعَ فأُكَذِّبَ نفسي، ثم قلت: لهم: هل لَقِيَ هذا معي من أحدٍ؟ قالوا: نعم. [لقِيَه] معك رجُلانِ، قالا مثلَ ما قلت، وقيل لهما مثلُ ما قيل لك. قلت: من هما، قالوا: مرارةُ بن ربيعة العامري (¬1) وهلالُ بنُ أميَّةَ
¬__________
(¬1) قال الإمام النووي في " شرح مسلم " 17/ 92: هكذا هو في جميع نسخ مسلم: " العامري "، وأنكره العلماء، وقالوا: هو غلط، إنما صوابه: " العمري " بفتح العين، وإسكان الميم، من بني عمرو بن عوف، وكذا ذكره البخاري، وكذا نسبه محمد بن إسحاق، وابن عبد البر وغيرهما من الأئمة. قال القاضي: هو الصواب، وإن كان القابسي قد قال: لا أعرفه إلا العامري.
الصفحة 399
408