كتاب العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (اسم الجزء: 9)
الواقفيُّ، قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً (¬1) فيهما أسوةٌ. قال: فمضيتُ حتى ذكروهما لي. ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامِنا أيُّها الثلاثةُ من بين من تخلَّف عنه، قال: فاجتَنَبَنا الناسُ، أو قال: تغيَّرُوا لنا، حتَّى تنكَّرت لي في نفسيَ الأرضُ، فما هي بالأرضِ التي أعرِفُ، فلبِثْنَا على ذلك خمسين ليلةً، فأمَّا صاحباي فاستكانا وقعدا في بُيوتِهما يبكيان، وأما أنا فكنتُ أشبَّ القوم وأجلَدهم، فكنتُ أخرج أشهدُ الصلاةَ، وأطوفُ في الأسواق، ولا يكلِّمُني أحدٌ، وآتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأسلِّمُ عليه وهو في مجلسه، وأقول في نفسي: هل حرَّكَ شَفتَيه بردِّ السلام أم لا؟ ثم أُصلِّي قريباً منه، وأسارقُه النَّظرَ، فإذا أقبلتُ على
¬__________
(¬1) قال ابن القيم في " زاد المعاد " 3/ 577: هذا الموضع مما عُدَّ من أوهام الزهري، فإنه لا يُحفظ عن أحد من أهل المغازي والسير ألبتة ذكر هذين الرجلين في أهل بدر، لا ابن إسحاق، ولا موسى بن عقبة، ولا الأموي، ولا الواقدي، ولا أحد ممن عدَّ أهل بدر، وكذلك ينبغي ألاَّ يكونا من أهل بدر، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يَهجُرْ حاطباً، ولا عاقبه وقد جسَّ عليه، وقال لعمر لما هم بقتله: " ما يُدريك أن الله اطلع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم "، وأين ذنبُ التخلف من ذنب الجسِّ.
قال أبو الفرج ابن الجوزي: ولم أزل حريصاً على كشف ذلك وتحقيقه حتى رأيتُ أبا بكر بن الأثرم قد ذكر الزهري وذكر فضله وحفظه وإتقانه، وأنه لا يكاد يُحفظ عليه غلط إلا في هذا الموضع، فإنه قال: إن مرارة بن الربيع، وهلال بن أمية شهدا بدراً، وهذا لم يقله أحد غيره، والغلط لا يعصم منه إنسان.
وقال الحافظ في " الفتح " 8/ 120 تعليقاً على قوله " قد شهدا بدراً ": هكذا وقع هنا، وظاهره أنه من كلام كعب بن مالك، وهو مقتضى صنيع البخاري ... ثم نقل قول ابن القيم -ولكنه لم يصرح باسمه- " وكذلك ينبغي ... إلى قوله: من ذنب الجس " فقال: وليس ما استدل به بواضح، لأنه يقتضي أن البدري عنده إذا جنى جناية ولو كَبُرَتْ لا يُعاقَبُ عليها، وليس كذلك، فهذا عمر مع كونه المخاطب بقصة حاطب، فقد جلد قدامةَ بنَ مظعون الحدَّ لما شرب الخمر، وهو بدري، وإنما لم يُعاقب النبي - صلى الله عليه وسلم - حاطباً ولا هجره، لأنه قَبِلَ عذره في أنه إنما كاتب قريشاً خشيةً على أهله وولده، وأراد أن يتخذ له عندهم يداً، فعذره بذلك، بخلاف تخلُّف كعب وصاحبيه، فإنهم لم يكن لهم عذرٌ أصلاً.
الصفحة 400
408