كتاب العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (اسم الجزء: 9)

التهديد والتخويف للوقوع فيما يستحقُّ العاصي، والخبر عما يستحقه وما أعد له إن لم يعف عنه، وقد أجمعوا على إضمار التوبة في آيات الوعيد ولو انفصلت أدلتها، وكذلك التكفير بالحسنات، وزاد أهل السنة إضمار المشيئة والعفو فيما دون الشرك للنصوص الواردة فيه قرآناً وسنة، وعلى هذا يخرج الجواب على من احتجَّ على تكليف ما لا يُطاق بقوله تعالى في أبي لَهَبٍ: {سَيَصْلَى ناراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 3]، فإنهم قالوا: قد كلف بالإيمان والطاعة التي ينجو معها من النار، ومن جُملة الإيمان أن يؤمن بأنه سيصلى ناراً ذات لهب، ومع إيمانه بهذا كيف يجوز ألا يقع حتى يسعى في عدم وقوعه، وفَتَحَ الله عليَّ في الجواب عن ذلك، أن الآية يجوز أنها خرجت مخرج الوعيد، لا مخرج الخبر المحض عن عاقبته، وكذلك يتخرج الجواب عن نجاة قوم يونس من العذاب بعد وعدِ يونس لهم به ليومٍ معين، ثم عفا الله عنهم بعد مُشاهدة العذاب بالنص والوفاق من غير توبةٍ صحيحة، لأنهم قد كانوا مُلحين بمشاهدة العذاب على الصحيح، وممَّنْ اختاره القرطبي في " تذكرته " (¬1)، واحتج بقوله تعالى في يونس: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين} [يونس: 98]، وبقوله فيهم: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين} [الصافات: 147 - 148]، والفرق بينهما واضحٌ، فإنه يحسن الوعيد في المستقبل ممن لا يعلم الغيب، ولا يحسن الخبر المحض بذلك لجواز أن يموت أحدهما أو يعجز صاحب الوعيد، أو يرجع عن وعيده أو غير ذلك (¬2)، وإذا ثبت أنه يجوز أن الآية المتعلقة بأبي لهب خرجت مخرج الوعيد العام للعاصين، فإنه بالإجماع موقوفٌ على شروطٍ تجمعها مشيئة الله تعالى، منها ما هو مجمعٌ عليه كالإسلام أو التوبة أو تكفير الصغائر، ومنها مختلفٌ فيه كالعفو وتكفير بعض الكبائر بما سيأتي بيانه ولا دليلَ قاطعٌ مع الوعيدية في هذه الآية خصوصاً يمنع من هذا الاحتمال
¬__________
(¬1) وانظر " الجامع لأحكام القرآن " 8/ 384.
(¬2) في (ف): "نحو".

الصفحة 52