كتاب العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (اسم الجزء: 9)

ففسقوا، وذلك أن المحذوف إذا دل عليه المنطوق وجب تقديره من جنسه.
ومثلهما قوله تعالى في الشفاعة: {من ذا الذي يشفع عنده إلاَّ بإذنه} [البقرة: 255]، وقوله: {إلاَّ من بعد أن يأذنَ الله لمن يشاء ويرضى} كلها في نفي الشفاعة من غير مشيئته ردّاً على المشركين في جهالاتِهم، ولولا قبولُ الخاص وتقديمه على العامِّ، لَوَجَبَ نفيُ الشفاعة عن المؤمنين لقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، فكيف تُرَدُّ أخبار الشفاعة الصريحة الصِّحاح، بل المتواترة عند أهل العلم التامِّ بالحديث لأجل عموماتٍ نزلت في ردِّ جهالات المشركين، وما يجري هذا المجرى في الاحتجاج منهم والحساب عليهم قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّار} [الزمر: 19].
والجواب أنها عمومٌ، وأن آية سورة مريم أخصُّ وأحاديث الشفاعة المتواترة وسائر أدلة أهل السنة، ويوضح ذلك أن هذه فيمن حقَّتْ عليه كلمة العذاب كما هو بيِّن فيها، وقد قال الله تعالى: {وكذلك حقت كلماتُ (¬1) ربك على الذين كفروا أنهم أصحابُ النار} [غافر: 6]، ولها نظائر، وفي حديث الشفاعة الصحيح تقول الملائكة (¬2): لم يبق في النار إلاَّ من حَبَسَهُ القرآن (¬3)، يريد الكفار الموعودين بالخلود، والآية التي احتجوا بها في " الزمر " وعقيبها قوله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر: 20]، وبعدهما بيسير: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون} [الزمر:
¬__________
(¬1) بالألف على الجمع، وهي قراءه نافع وابن عامر، وقرأ الباقون: " كلمة " بالإفراد.
انظر " حجة القراءات " ص 627.
(¬2) لم يرد في الصحيح أن هذا قول الملائكة كما أشار إليه، وإنما هو قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونصه: " فأقول: يا رب، ما بقي في النار إلاَّ من حَبَسَه القرآن، أي: وجب عليه الخلود ".
(¬3) أخرجه البخاري (4476) و (6565) و (7410)، ومسلم (193)، وابن ماجه (4312) من حديث أنس.

الصفحة 92