كتاب العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (اسم الجزء: 9)

وكذلك يُقاسُ عليه الفِرارُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غير فئةٍ في كل موطن مثل بدر، ولعلَّ هذا الوعيد إن شاء الله من قبيل قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65] لعلم الله أن أهل بدر لا يَفِرُّ منهم أحدٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويدعه للمشركين، ولذلك قال الله تعالى بعد هذه الآية: {وليُبْلِي المؤمنين منه بلاءً حسناً إن الله سميعٌ عليمٌ} [الأنفال: 17]، ويدل على جواز تخصيص الوعيد العام، وأن رحمة الله تعالى قد تغلبُ على غضبه المنصوص في الوعيد حيث يشاء سبحانه، أن طائفةً من المسلمين قد انهزَمُوا يوم أحد، فنَزَلَ القرآن صريحاً بالمغفرة لهم والعفو عنهم، بل صرَّح بأن الله تعالى وليُّهم في قوله تعالى: {والله وليُّهُما} [الأنعام: 127]، وسُرَّ بعض المنهزمين بهذه الآية، بل اعتذر الله سبحانه لهم لُطفاً بهم، فقال: {إنما استزلَّهُم الشيطان ببعض ما كَسَبُوا} [آل عمران: 155] كما نَزَلَ القرآن بالعفو عنهم في حديث الإفك في سورة النور مع أنه أحد الموبقات السبع، ولم تشتهر التوبة عنهم في القصتين معاً، بل الظاهر خصوصاً في حديث الإفك إصرار جميعهم أو بعضهم حتى نزلت مع أن الإفك من حقوق المخلوقين، ولذلك كَرَّرَ الله آيات الرحمة في ذلك كقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 14]، وقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيم} [النور: 20]، {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} [النور: 21]. ومن أرجى آيةٍ فيها قوله تعالى في قطع أبي بكر نفقة مِسْطَحٍ وحَلِفِه على ذلك، لأن مِسْطَحاً كان من أهل الإفك، فأنزل الله في قَسَمِ أبي بكر على قطع نفقته: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] فانظر كيف أثنى الله تعالى على مسطحٍ مع ذنبه المجمع على كبره، بأنه من المهاجرين في سبيل الله، وترحَّم له بأنه من المساكين، وأمر بالعفو عنه، ووَعَدَ بالمغفرة جزاءً لمن عفا عنه، وهذه الآياتُ مدنيةٌ من آخر ما

الصفحة 96