كتاب العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (اسم الجزء: 9)

القيامة مع عدم الذنوب، وأعظم من ذلك ما وَرَدَ في أحاديث الشفاعة الصحاح من خوف كبار الأنبياء من ذنوبهم، وامتناعهم من الشفاعة بسبب ما صدر منهم من الصغائر المغفورات التي لا قَدْرَ لها في جنب عظيمِ إحسانهم ورفيع مكانهم ومما قلتُ في ذلك:
إذا خافَ الخليلُ وخافَ موسى ... وآدَمُ والمسيحُ وخافَ نوحُ
ولم يَتَشَفَّعُوا للناس خوفاً ... فما لي لا أخافُ ولا أنوحُ
فالأمر عظيمٌ، والخطبُ جسيمٌ، والخوف من عذاب الرب العظيم عظيم، لولا ما آنس قلوب العارفين من سَعةِ رحمة الرحمن الرحيم، وعلى كُلِّ حال فما لنا إلاَّ رحمته، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الأمر الثالث من الأصل ما تعلَّقوا به قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31]، فإنهم زعموا أنها أخص وأبين من قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]، وأبين من سائر ما ذكرنا ومن سائر ما نذكره من أدلة أهل السنة، والجواب عليهم من وجوه:
الوجه الأول: وهو تمهيدٌ للتحقيق (¬1)، أن ذلك لا يصح إلاَّ لو كان أهلُ الجنة من المسلمين نوعاً واحداً لا تفاضُلَ ولا اختلاف، وأما مع صحة انقسامهم إلى قسمين كما في " الواقعة " و" الرحمن " وغيرهما، وإلى ثلاثة أقسام كما في " التوبة " وغيرها، ألا تراه يقول في بعضهم: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً} [التوبة: 102]، ويقول في بعضهم: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ .. } إلى قوله: {والذين كفروا لهم نارُ جهنم .. } الآية [فاطر: 32 - 36]. ويقول في آيةٍ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)
¬__________
(¬1) في (ش): " التحقيق ".

الصفحة 98