كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (اسم الجزء: 9)

حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ، ثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «§مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ إِلَى صَلَاةِ قَطُّ إِلَّا شَهَرَ بِيَدِهِ إِلَى السَّمَاءِ قَبْلَ أَنْ يُكَبِّرَ» غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْهُ إِلَّا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ
حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثنا جَعْفَرٌ، ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُبَشِّرٌ، ثنا جَرِيرُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ أَسَدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ، مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ , عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةِ حَتَّى ظَنَّ الظَّانُّ أَنَّهُ صَلَّى وَلَيْسَ بِخَارِجٍ، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ظَنَنَّا أَنَّكَ صَلَّيْتَ وَلَسْتَ بِخَارِجٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «§أَعْتِمُوا بِهَذِهِ الصَّلَاةِ فَإِنَّكُمْ فُضِّلْتُمْ بِهَا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَلَمْ يُصَلِّهَا أَحَدٌ قَبْلَكُمْ»
§مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ وَمِنْهُمُ السَّلِيمُ الْأَسْلَمُ الْمَذْكُورُ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ الطُّوسِيُّ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ. أَحْوَالُهُ مُشْتَهِرَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَشَمَائِلُهُ مُسَطَّرَةٌ مَذْكُورَةٌ. كَانَ بِالْآثَارِ مُقْتَدِيًا، وَعَنِ الْآرَاءِ مُنْتَهِيًا، أُعْطِي بَيَانًا وَبَلَاغَةً وَزُهْدًا وَقَنَاعَةً، نَقَضَ عَلَى الْمُخَالِفِينَ بِتِبْيَانِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَى تَصْحِيحِ حَالِهِ وَشَأْنِهِ
حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا خَالِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، ثنا أَبِي، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ الطُّوسِيِّ خَادِمِ ابْنِ أَسْلَمَ قَالَ: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهُوَيْهِ، يَقُولُ: وَذَكَرَ فِي حَدِيثٍ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ §اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْمَعَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الِاخْتِلَافَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ مَنِ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ؟ فَقَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ وَأَصْحَابُهُ وَمَنْ -[239]- تَبِعَهُ، ثُمَّ قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ الْمُبَارَكِ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَنِ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ؟ قَالَ: أَبُو حَمْزَةَ السَّكُونِيُّ. ثُمَّ قَالَ إِسْحَاقُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يَعْنِي أَبَا حَمْزَةَ، وَفِي زَمَانِنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ وَمَنْ تَبِعَهُ. ثُمَّ قَالَ إِسْحَاقُ: لَوْ سَأَلْتَ الْجُهَّالَ مَنِ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ؟ قَالُوا: جَمَاعَةُ النَّاسِ وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ عَالِمٌ مُتَمَسِّكٌ بِأَثَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَرِيقِهِ، فَمَنْ كَانَ مَعَهُ وَتَبِعَهُ فَهُوَ الْجَمَاعَةُ، وَمَنْ خَالَفَهُ فِيهِ تَرَكَ الْجَمَاعَةُ. ثُمَّ قَالَ إِسْحَاقُ: لَمْ أَسْمَعْ عَالِمًا مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً أَعْلَمَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَسَمِعْتُ أَبَا يَعْقُوبَ الْمَرْوَزِيَّ بِبَغْدَادَ وَقُلْتُ لَهُ: قَدْ صَحِبْتَ مُحَمَّدَ بْنَ أَسْلَمَ، وَصَحِبْتَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ أَيُّ الرَّجُلَيْنِ كَانَ عِنْدَكَ أَرْجَحُ أَوْ أَكْثَرُ أَوْ أَبْصَرُ بِالدِّينِ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لِمَ تَقُولُ هَذَا، إِذَا ذَكَرْتَ مُحَمَّدَ بْنَ أَسْلَمَ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءٍ فَلَا نَقْرِنُ مَعَهُ أَحَدًا: الْبَصَرُ بِالدِّينِ، وَاتِّبَاعُ أَثَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا، وَفَصَاحَةُ لِسَانِهِ بِالْقُرْآنِ وَالنَّحْوِ. ثُمَّ قَالَ لِي: نَظَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ الَّذِي وَضَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ، فَتَعَجَّبَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ رَأَتْ عَيْنَاكَ مِثْلَ مُحَمَّدٍ. فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَا يُغَلَّظُ رَأْيُ مُحَمَّدٍ مِنْ أُسْتَاذَيْهِ وَرِجَالُهُ مِثْلُهُ، فَتَفَكَّرَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: لَا قَدْ رَأَيْتُهُمْ وَعَرَفْتُهُمْ فَلَمْ أَرَ فِيهِمْ عَلَى صِفَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَسَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ يَحْيَى عَنْ سِتِّ مَسَائِلَ فَأَفْتَى فِيهَا، وَقَدْ كُنْتُ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ أَسْلَمَ أَفْتَى فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ احْتَجَّ فِيهَا بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرْتُ يَحْيَى بْنَ يَحْيَى بِفُتْيَا مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ فِيهَا، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ أَطِيعُوا أَمْرَهُ وَخُذُوا بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ أَبْصَرُ مِنَّا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يحْتَجُّ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ؟ وَلَيْسَ ذَاكَ عِنْدَنَا. قَالَ: سَمِعْتُ شَيْخًا، مِنْ أَهْلِ مَرْوَ يُكْنَى بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ صَحِبْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ وَوَكِيعًا وَكَانَ صَدِيقًا لِيَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهُوَيْهِ، وَكَانَ صَاحِبَ عِلْمٍ فَأَخْبَرَنِي قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَدْ رَأَيْتَ مُحَمَّدَ بْنَ أَسْلَمَ وَصَحِبْتَ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهُوَيْهِ فَأَيُّ الرَّجُلَيْنِ أَبْصَرُ عِنْدَكَ وَأَرْجَحُ؟ فَقُلْتُ: يَا أَبَا زَكَرِيَّا مَا لَكَ إِذَا ذَكَرْتَ مُحَمَّدَ بْنَ أَسْلَمَ تَذْكُرُ مَعَهُ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهُوَيْهِ وَغَيْرَهُ، قَدْ صَحِبْتُ وَكِيعًا سَنَتَيْنِ وَأَشْهُرًا وَصَحِبْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ وَلَمْ أَرَ يَوْمًا وَاحِدًا لَهُمْ مِنَ الشَّمَائِلِ مَا لِمُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ. ثُمَّ قُلْتُ: إِنَّمَا يُعْرَفُ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ -[240]-، رَجُلٌ بَصِيرٌ بِالْعِلْمِ قَدْ عَرَفَ الْحَدِيثَ، يَنْظُرُ فِي شَمَائِلِ هَذَا الرَّجُلِ فَيَعْلَمُ بِأَيِّ حَدِيثٍ يَعْمَلُ بِهِ هَذَا الرَّجُلُ الْيَوْمَ، غَرِيبٌ فِي هَذَا الْخُلُقِ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِمَا عَمِلَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ عِنْدَ النَّاسِ مُنْكَرٌ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا أَحَدًا يَعْمَلُ بِهِ فَلَا يَعْرِفُهُ إِلَّا بَصِيرٌ. فَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى صَدَقْتَ هُوَ كَمَا تَقُولُ فَمَنْ مِثْلُهُ الْيَوْمَ. قَالَ: وَسَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهُوَيْهِ ذَاتَ يَوْمٍ رَوَى فِي تَرْجِيعِ الْأَذَانِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً ثُمَّ رَوَى حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَقَدْ أَمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ النَّاسَ بِالتَّرْجِيعِ فَقُلْتُمْ هَذَا مُبْتَدِعٌ، عَامَّةُ أَهْلِ هَذِهِ الْكُورَةِ غَوْغَاءُ، ثُمَّ قَالَ: احْذَرُوا الْغَوْغَاءَ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ قَتَلَتْهُمُ الْغَوْغَاءُ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا يَعْقُوبَ، حَدَّثْتَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ كُلَّهَا فِي التَّرْجِيعِ فَمَا لَكَ لَا تَأْمُرْ مُؤَذِّنَكَ؟ قَالَ: يَا مُغَفَّلُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قُلْتُ فِي الْغَوْغَاءِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ، فَأَمَّا أَمْرُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ فَإِنَّهُ يَتَمَادَى كُلَّمَا أَخَذَ فِي شَيْءٍ تَمَّ لَهُ وَنَحْنُ عِنْدَهُ نَمْلَأُ بُطُونًا لَا يَتِمُّ لَنَا أَمَرٌ نَأْخُذُ فِيهِ نَحْنُ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ مِثْلَ السُّرَّاقِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَكَتَبَ إِلَيَّ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْهِ بِحَالِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ فَإِنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ. قَالَ: وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ وَكَانَ رَحَلَ إِلَى صَدَقَةَ الْمَاوَرْدِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِصَدَقَةَ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي، فَقُلْتُ: إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَسْلَمَ قَدْ وَضَعَ فِيهِ كِتَابًا. قَالَ: هُوَ مَعَكُمْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: ائْتِنِي بِهِ. فَأَتَيْتُهُ بِهِ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَالَ لَنَا: وَيْحَكُمْ كُنَّا نَظُنُّ أَنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا صَبِيٌّ فَلَمَّا نَظَرْتُ إِلَيْهِ إِذَا هُوَ قَدْ فَاقَ أَصْحَابَنَا، قَدْ كُنْتُ قَبْلَ الْيَوْمِ لَوْ ضُرِبْتُ سَوْطَيْنِ لَقُلْتُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَوْ ضُرِبَ عُنُقِي لَمْ أَقُلْهُ. قَالَ: وَكُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ بِنَيْسَابُورَ بَعْدَمَا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ بِيَوْمٍ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ فِيهِمْ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ مَشَايِخُ وَشَبَابٌ، وَقَالُوا: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ أَبِي النَّضْرِ وَهُوَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَجْتَمِعَ فَنُعَزِّيَ بَعْضَنَا بِمَوْتِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي لَمْ نَعْرِفْ مِنْ عَهْدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَجُلًا مِثْلَهُ. وَقِيلَ: لِأَحْمَدَ بْنَ نَصْرٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ أَلْفُ أَلْفٍ مِنَ النَّاسِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَةُ أَلْفٍ مِنَ النَّاسِ، يَقُولُ: صَالِحُهُمْ وَطَالِحُهُمْ لَمْ نَعْرِفْ لِهَذَا الرَّجُلِ نَظِيرًا، فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ: يَا قَوْمُ أَصْلِحُوا -[241]- سَرَائِرَكُمْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ، أَلَا تَرَوْنَ رَجُلًا دَخَلَ بَيْتَهُ بِطُوسٍ فَأَصْلَحَ سِرَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، ثُمَّ نَقَلَهُ اللَّهُ إِلَيْنَا فَأَصْلَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَةَ أَلْفٍ مِنَ النَّاسِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَدَخَلْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِنَيْسَابُورَ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تَعَالَى أُبَشِّرُكَ بِمَا صَنَعُ اللَّهُ بِأَخِيكَ مِنَ الْخَيْرِ، قَدْ نَزَلَ بِيَ الْمَوْتُ، وَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيَّ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي دِرْهَمٌ يُحَاسِبُنِي اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ ضَعْفِي وَأَنِّي لَا أُطِيقُ الْحِسَابَ، فَلَمْ يَدَعْ عِنْدِي شَيْئًا يُحَاسِبُنِي بِهِ اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ: أَغْلِقِ الْبَابَ وَلَا تَأْذَنْ لِأَحَدٍ عَلَيَّ حَتَّى أَمُوتَ وَتَدْفِنُونَ كُتُبِي، وَاعْلَمْ أَنِّي أَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا وَلَيْسَ أَدَعُ مِيرَاثًا غَيْرَ كُتُبِي وَكِسَائِي وَلِبَدِي وَإِنَائِي الَّذِي أَتَوَضَّأُ مِنْهُ وَكُتُبِي هَذِهِ فَلَا تُكَلِّفُوا النَّاسَ مُؤْنَةً. وَكَانَتْ مَعَهُ صُرَّةٌ فِيهَا نَحْوُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، فَقَالَ: هَذَا لِابْنِي أَهْدَاهُ إِلَيْهِ قَرِيبٌ لَهُ، وَلَا أَعْلَمُ شَيْئًا أُحِلَّ لِي مِنْهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ». وَقَالَ: «أَطْيَبُ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَوَلَدُهُ مِنْ كَسْبِهِ». فَكَفِّنُونِي فِيهَا: فَإِنْ أَصَبْتُمْ إِلَيَّ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتِي فَلَا تَشْتَرُوا بِخَمْسَةَ عَشَرَ وَأَبْسِطُوا عَلَى جِنَازَتِي لبدي وَغَطُّوا عَلَى جِنَازَتِي كِسَائِي، وَلَا تُكَلِّفُوا أَحَدًا لِيَأْتِيَ جِنَازَتِي وَتَصَدَّقُوا بِإِنَائِي أَعْطُوهُ مِسْكِينًا يَتَوَضَّأُ مِنْهُ. ثُمَّ مَاتَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ. فَعَجِبْتُ أَنْ قَالَ لِي ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَلَمَّا أُخْرِجَتْ جِنَازَتُهُ جَعَلَ النِّسَاءُ يَقُلْنَ مِنْ فَوْقِ السُّطُوحِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَذَا الْعَالِمُ الَّذِي خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا وَهَذَا مِيرَاثُهُ الَّذِي عَلَى جِنَازَتِهِ لَيْسَ مِثْلُ عُلَمَائِنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ عَبِيدُ بُطُونِهِمْ، يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ لِلْعِلْمِ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَيَشْتَرِي الضِّيَاعَ وَيَسْتَفِيدُ الْمَالَ. وَقَالَ لِي مُحَمَّدٌ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَنَا مَعَكُ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَعِي فِي قَمِيصِي مَنْ يَشْهَدُ عَلَيَّ فَكَيْفَ يَنْبَغِي لِي أَنْ آتِيَ الذُّنُوبَ إِنَّمَا يَعْمَلُ الذُّنُوبَ جَاهِلٌ يَنْظُرُ فَلَا يَرَى أَحَدًا فَيَقُولُ: لَيْسَ يَرَانِي أَحَدٌ أَذْهِبْ فَأُذْنِبُ. فَأَمَّا أَنَا كَيْفَ يُمْكِنُنِي ذَلِكَ وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ دَاخِلَ قَمِيصِي مَنْ يَشْهَدُ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا لِي وَلِهَذَا الْخُلُقِ، كُنْتُ فِي صُلْبِ أَبِي وَحْدِي، ثُمَّ صِرْتُ فِي بَطْنِ أُمِّي وَحْدِي، ثُمَّ دَخَلْتُ الدُّنْيَا وَحْدِي، ثُمَّ تُقْبَضُ رُوحِي وَحْدِي -[242]-، وَأَدْخُلُ فِي قَبْرِي وَحْدِي، وَيَأْتِينِي مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ فَيَسْأَلَانِي فِي قَبْرِي وَحْدِي، فَإِنْ صِرْتُ إِلَى خَيْرٍ صِرْتُ وَحْدِي وَإِنْ صِرْتُ إِلَى شَرٍّ كُنْتُ وَحْدِي، ثُمَّ أُوقَفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَحْدِي، ثُمَّ يُوضَعُ عَمَلِي وَذُنُوبِي فِي الْمِيزَانِ وَحْدِي، وَإِنْ بُعِثْتُ إِلَى الْجَنَّةِ بُعِثْتُ وَحْدِي، وَإِنْ بُعِثْتُ إِلَى النَّارِ بُعِثْتُ وَحْدِي، فَمَا لِي وَلِلنَّاسِ. ثُمَّ تَفَكَّرَ سَاعَةً فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ الرِّعْدَةُ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُسْقُطَ ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ كَتَبُوا رَأْيَ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَتَبْتُ أَنَا الْأَثَرَ فَأَنَا عِنْدَهُمْ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ وَهُمْ عِنْدِي عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ. وَقَالَ لِي: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَصْلُ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْفَرَائِضِ، وَهَذِهِ الْفَرَائِضُ فِي حَرْفَيْنِ: مَا قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ افْعَلْ فَهُوَ فَرِيضَةٌ يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ، وَمَا قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَا تَفْعَلْ فَيَنْبَغِي أَنْ يُنْتَهى عَنْهُ فَتَرْكُهُ فَرِيضَةٌ. وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ وَفِي فَرِيضَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَقْرَؤُونَهُ وَلَكِنْ لَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهِ، قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ حُبُّ الدُّنْيَا. حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا، فَقَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ» ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ» ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقُوا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَأُمَّتِي تَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَسَبْعِينَ كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي». فَرَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى وَاحِدٍ وَالسَّبِيلُ الَّذِي قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالَّذِي قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» فَدِينُ اللَّهِ فِي سَبِيلٍ وَاحِدٍ فَكُلُّ عَمَلٍ أَعْمَلُهُ أَعْرِضُهُ عَلَى هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فَمَا وَافَقَهُمَا عَمِلْتُهُ وَمَا خَالَفَهُمَا تَرَكْتُهُ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ فَعَلُوا لَكَانُوا عَلَى أَثَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُمْ فَتَنَهُمْ حُبُّ الدُّنْيَا وَشَهْوَةُ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الَّذِي قَالَ: «كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً» قَالَ: كُلُّهَا فِي الْجَنَّةِ إِلَّا وَاحِدَةً لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَدْ تَبَيَّنَ عَلَيْنَا فِي خُشُوعِنَا وَهُمُومِنَا وَجَمِيعِ أُمُورِنَا خَوْفًا أَنْ نَكُونَ -[243]- مِنْ تِلْكَ الْوَاحِدَةِ فَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ: «كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: صَحِبْتُ مُحَمَّدَ بْنَ أَسْلَمَ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ سَنَةً لَمْ أَرَهُ يُصَلِّي حَيْثُ أَرَاهُ رَكْعَتَيْنِ مِنَ التَّطَوُّعِ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَا يُسَبِّحُ وَلَا يَقْرَأُ حَيْثُ أَرَاهُ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ مِنِّي. وَسَمِعْتُهُ يَحْلِفُ كَذَا كَذَا مَرَّةً أَنْ لَوْ قَدَرْتُ أَنْ أَتَطَوَّعَ حَيْثُ لَا يَرَانِي مَلَكَايَ لَفَعَلْتُ وَلَكِنْ لَا أَسْتَطِيعُ ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ الرِّيَاءِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْيَسِيرُ مِنَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ» ثُمَّ أَخَذَ حَجَرًا صَغِيرًا فَوَضَعَهُ عَلَى كَفِّهِ، فَقَالَ: أَلَيْسَ هَذَا حَجَرًا؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: أَوَ لَيْسَ هَذَا الْجَبَلُ حَجَرًا؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَالِاسْمُ يَقَعُ عَلَى الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ أَنَّهُ حَجَرٌ فَكَذَلِكَ الرِّيَاءُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ شِرْكٌ. وَكَانَ مُحَمَّدٌ يَدْخُلُ بَيْتًا وَيُغْلِقُ بَابَهُ وَيُدْخِلُ مَعَهُ كُوزًا مِنْ مَاءٍ، فَلَمْ أَدْرِ مَا يَصْنَعُ حَتَّى سَمِعْتُ ابْنًا لَهُ صَغِيرًا يَبْكِي بُكَاءَهُ فَنَهَتْهُ أُمُّهُ فَقُلْتُ لَهَا: مَا هَذَا الْبُكَاءُ؟ فَقَالَتْ: إِنَّ أَبَا الْحَسَنِ يَدْخُلُ هَذَا الْبَيْتَ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَبْكِي فَيَسْمَعُهُ الصَّبِيُّ فَيُحَاكِيهِ، فَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ غَسَلَ وَجْهَهُ وَاكْتَحَلَ فَلَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ الْبُكَاءِ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ يَصِلُ قَوْمًا وَيُعْطِيهِمْ وَيَكْسُوهُمْ فَيَبْعَثُ إِلَيْهِمْ وَيَقُولُ لِلرَّسُولِ: انْظُرْ أَنْ لَا يَعْلَمُوا مَنْ بَعَثَهُ إِلَيْهِمْ فَيَأْتِيهِمْ هُوَ بِاللَّيْلِ فَيَذْهَبُ بِهِ إِلَيْهِمْ وَيُخْفِي نَفْسَهُ فَرُبَّمَا بَلَتْ ثِيَابُهُمْ وَنَفِدَ مَا عِنْدَهُمْ وَلَا يَدْرُونَ مَنِ الَّذِي أَعْطَاهُمْ، وَلَا أَعْلَمُ مُنْذُ صَحِبْتُهُ وَصَلَ أَحَدًا بِأَقَلَّ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ إِلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَهُ ذَلِكَ. وَأَكَلْتُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ذَاتَ يَوْمٍ ثَرِيدًا فِي بَرِيدٍ فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا الْحَسَنِ مَا لَكَ تَأْتِينِي بِثَرِيدٍ بَارِدٍ هَكَذَا تَأْكُلُهُ؟ قَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنِّي إِنَّمَا طَلَبْتُ الْعِلْمَ لِأَعَمَلَ بِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فِي الْحَارِّ بَرَكَةٌ» وَكُنْتُ أَخْبِزُ لَهُ فَمَا نَخَلْتُ لَهُ دَقِيقًا قَطُّ إِلَّا أَنْ أَغْضَبَهُ وَكَانَ يَقُولُ اشْتَرِ لِي شَعِيرًا أَسْوَدَ قَدْ تَرَكَهُ النَّاسُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِلَى الْكَنِيفِ وَلَا تَشْتَرِ لِي إِلَّا مَا يَكْفِينِي يَوْمًا بِيَوْمٍ. وَأَرَدْتُ أَنْ أَخْرَجَ إِلَى بَعْضِ الْقُرَى وَلَا أَرْجِعُ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَاشْتَرَيْتُ لَهُ عِدْلَ شَعِيرٍ أَبْيَضَ جَيِّدًا فَنَقَّيْتُهُ وَطَحَنْتُهُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِهِ فَقُلْتُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْرَجَ إِلَى بَعْضِ الْقُرَى فَأَغِيبَ فِيهِ وَاشْتَرَيْتُ لَكَ هَذَا الطَّعَامَ لِتَأْكُلَ مِنْهُ حَتَّى أَرْجِعَ. فَقَالَ لِي: نَقَّيْتَهُ لِي وَجَوَّدْتَهُ لِي؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَقَالَ: إِنْ كُنْتَ تَقَيَّدْتَ -[244]- فِيهِ وَنَقَّيْتَهُ فَأَطْعِمْهُ نَفْسَكَ فَلَعَلَّ لَكَ عِنْدَ اللَّهِ أَعْمَالًا تَحْتَمِلُ أَنْ تُطْعِمَ نَفْسَكَ النَّقِيَّ، فَأَمَّا أَنَا فَقَدْ سِرْتُ فِي الْأَرْضِ وَدُرْتُ فِيهَا فَبِالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا رَأَيْتُ نَفْسًا تُصَلِّي إِلَى الْقِبْلَةِ شَرًّا عِنْدِي مِنْ نَفْسِي، فِيمَ أَحْتَجُّ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ أُطْعِمَهَا النَّقِيَّ، خُذْ هَذَا الطَّعَامَ وَاشْتَرِ لِي بَدَلَهُ شَعِيرًا أَسْوَدَ رَدِيًّا فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَصِيرُ إِلَى الْكَنِيفِ. ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكُمْ أَنْتُمْ لَا تَعْرِفُونَ الْكَنِيفَ لَا أَعْلَمُ فِيكُمْ مَنْ يُبْصِرُ بِقَلْبِهِ، لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا كَانَ يَبِيعُ بَيْعًا فَجَاءَهُ رَجُلٌ بِدَرَاهِمَ، فَقَالَ: أُحِبُّ أَنْ تُعْطِيَنِي مِنْ جَيِّدِ بَيْعِكَ فَإِنِّي أُرِيدُهُ لَلْكَنِيفِ تَضْحَكُونَ مِنْهُ وَتَقُولُونَ: هَذَا مَجْنُونٌ فَكَيْفَ لَا تَضْحَكُونَ مِنْ أَنْفُسَكُمُ احْفِرُوا حَفْرًا وَاجْعَلُوا فِيهَا مَاءً وَطَعَامًا وَانْظُرُوا هَلْ يَنْتِنُ فِي شَهْرٍ وَأَنْتُمْ تَجْعَلُونَهُ فِي بُطُونِكُمْ فَيَنْتَنُ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَالْكَنِيفُ هُوَ الْبَطْنُ. ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ وَاشْتَرِ لِي رَحًى فَجِئْنِي بِهَا وَاشْتَرِ لِي شَعِيرًا رَدِيًّا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ حَتَّى أَطْحَنَهُ بِيَدِي فَآكُلَهُ لَعَلِّي أَبْلَغُ مَا كَانَ فِيهِ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ فَإِنَّهُ كَانَ يَطْحَنُ بِيَدِهِ. وَوُلِدَ لَهُ ابْنٌ فَدَفَعَ إِلَيَّ دَرَاهِمَ وَقَالَ: اشْتَرِ كَبْشَيْنِ عَظِيمَيْنِ وَغَالِ بِهِمَا، فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ أَعْظَمَ كَانَ أَفْضَلَ. اشْتَرَيْتُ لَهُ وَأَعْطَانِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَقَالَ اشْتَرِ بِهِ دَقِيقًا وَاخْبِزْهُ فَنَخَلْتُ الدَّقِيقَ وَخَبَزْتُهُ ثُمَّ جِئْتُ بِهِ فَقَالَ: نَخَلْتُ هَذَا فَأَعْطَانِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أُخَرَ وَقَالَ اشْتَرِ بِهِ دَقِيقًا وَلَا تَنْخُلْهُ وَاخْبِزْهُ، فَخَبَزْتُهُ وَحَمَلَتْهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ الْعَقِيقَةَ سُنَّةٌ وَنَخْلُ الدَّقِيقِ بِدْعَةٌ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي السُّنَّةِ بِدْعَةٌ، فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْخُبْزُ فِي بَيْتِي بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بِدْعَةً. قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَمَّا كَلَامُهُ فِي النَّقْضِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ فَشَائِعٌ ذَائِعٌ وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنَ الْمُثْبِتَةِ لِصِفَاتِ اللَّهِ أَنَّهَا أَزَلِيَّةٌ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ فِي كِتَابِهِ الْمُتَرْجَمِ بِالرَّدِ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ ذَكَرْتُ مِنْهُ فَصْلًا وَجِيزًا مِنْ فُصُولِهِ وَهُوَ مَا

الصفحة 238