كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (اسم الجزء: 9)

وَسَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ يَقُولُ: «§الْقَلْبُ بِمَنْزِلَةِ الْمِرْآةِ إِذَا جُلِّيَتْ لَا يَمُرُّ شَيْءٌ مِنَ الذُّبَابِ إِلَى الْفِيلِ إِلَّا مُثِّلَ لَهَا»
قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ يَقُولُ: «§إِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَإِنَّ الْجُوعَ عِنْدَهُ فِي خَزَائِنَ مُدَّخَرٌ لَا يُعْطِهِ إِلَّا مَنْ أَحَبَّ خَاصَّةً»
فَقُلْتُ لِأَبِي سُلَيْمَانَ: صَلَّيْتُ صَلَاةً فَوَجَدْتُ لَهَا لَذَّةً فَقَالَ: «أَيُّ شَيْءٍ لِذَلِكَ مِنْهَا؟» قَالَ: قُلْتُ: لَمْ يَرَنِي أَحَدٌ. قَالَ: «§أَنْتَ ضَعِيفٌ حِينَ خَطَرَ النَّاسُ عَلَى قَلْبِكَ فِي الْخَلَاءِ»
قَالَ: وَقُلْتُ لِأَبِي سيلمانَ: إِنِّي أُرِيدُ مِنَ الدُّنْيَا أَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِي، قَالَ: «§لَكِنِّي أَعْطَيْتُ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أُرِيدُ»
حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ، قَالَ قَرَأْتُ عَلَى سَهْلِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سَهْلٍ، ثنا أَبُو عِمْرَانَ مُوسَى بْنُ عَلِيٍّ الْجَصَّاصُ، قَالَ: قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: «§طُوبَى لِمَنْ حَذِرَ سَكَرَاتِ الْهَوَى وَثَوْرَةَ الْغَضَبِ وَالْفَرَحِ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا فَصَبَرَ عَلَى مُرَارَةِ التَّقْوَى، وَطُوبَى لِمَنْ لَزِمَ الْجَادَّةَ بِالِانْكِمَاشِ وَالْحَذَرِ، وَتَخَلَّصَ مِنَ الدُّنْيَا بِالثَّوَابِ وَالْهَرَبِ كَهَرَبِهِ مِنَ السَّبْعِ الْكَلْبِ، طُوبَى لِمَنِ اسْتَحْكَمَ أُمُورَهُ بِالِاقْتِصَادِ وَاعْتَقَدَ الْخَيْرَ لِلْمَعَادِ وَجَعَلَ الدُّنْيَا مَزْرَعَةً وَتَنَوَّقَ فِي الْبَذْرِ لَيَفْرَحَ غَدًا بِالْحَصَادِ، طُوبَى لِمَنِ انْتَقَلَ بِقَلْبِهِ مِنْ دَارِ الْغُرُورِ وَلَمْ يَسَعَ لَهَا سَعْيَهَا فَيَبْرُزُ مِنْ حَظَوَاتِ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا مِنْهُ عَلَى بَالٍ، اضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ الْأَحْوَالُ، مَنْ تَرَكَ الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ رَبِحَهُمَا وَمَنْ تَرَكَ الْآخِرَةَ لِلدُّنْيَا خَسِرَهُمَا وَكُلُّ أُمٍّ يَتْبَعُهَا بَنُوهَا، بَنُو الدُّنْيَا تُسْلِمُهُمْ إِلَى خِزْيٍ شَدِيدٍ وَمَقَامِعَ مِنْ حَدِيدٍ وَشَرَابِ الصَّدِيدِ، وَبَنُو الْآخِرَةِ تُسْلِمُهُمْ إِلَى عَيْشٍ رَغَدٍ وَنَعِيمِ الْأَبَدِ فِي ظِلٍّ مَمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ وَأَنْهَارٍ تَجْرِي بِغَيْرِ أُخْدُودٍ. وَكَيْفَ يَكُونُ حَكِيمًا مَنْ هُوَ لَهَا يَهْوَى رَكُونٌ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ رَاهِبًا مَنْ يَذْكُرُ مَا أَسْلَفَتْ يَدَاهُ وَلَا يَذُوبُ، الْفِكْرُ فِي الدُّنْيَا حِجَابٌ عَنِ الْآخِرَةِ وَعُقُوبَةٌ لِأَهْلِ الْوَلَايَةِ، وَالْفِكْرَةُ فِي الْآخِرَةِ تُورِثُ الْحِكْمَةَ وَتُحْيِي الْقَلْبَ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الدُّنْيَا مُوَلِّيَةً صَحَّ عِنْدَهُ غُرُورُهَا وَمَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا مُقْبِلَةً بِزِينَتِهَا شَابَ فِي قَلْبِهِ حُبُّهَا، وَمَنْ تَمَّتْ مَعْرِفَتُهُ اجْتَمَعَ هَمُّهُ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ شُغْلَهُ» -[279]- أَسْنَدَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْقَلِيلَ فَمِنْ مَفَارِيدِهِ

الصفحة 278