كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (اسم الجزء: 9)

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْأَنْطَاكِيَّ، يَقُولُ: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ §أَهْلَ الطَّاعَةِ قَدْ قَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الْأَعْمَالِ لَطِيفِ الْمَعْرِفَةِ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي يَسْتَدِيمُونَ بِهَا صَالِحَ الْأَعْمَالِ وَيَسْهُلُ عَلَيْهِمْ مَأْخَذُهُ وَصَيَّرُوا أَعْمَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا يَوْمًا وَاحِدًا وَلَيْلَةً وَاحِدَةً، كُلَّمَا مَضَتِ اسْتَأْنَفُوا النِّيَّةَ وَطَلَبُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ حُسْنَ الصُّحْبَةِ لِيَوْمِهِمْ -[285]- وَلَيْلَتِهِمْ، فَكُلَّمَا مَضَى عَنْهُمْ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ رَاقَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا عَلَى جَمِيلِ الطَّاعَةِ كَانَ عِنْدَهُمْ غُنْمًا وَذَكَرُوا الْيَوْمَ الْمَاضِيَ فَسُّرُوا بِهِ وَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ لِانْقِضَاءِ الْأَجَلِ فِيهِ أَوْ فِي لَيْلَتِهِ فَأَطْرَحُوا شُغْلَ الْقَلْبِ بِانْقِضَاءِ تَذَكُّرِ غَدٍ، وَأَعْمَلُوا أَبْدَانَهُمْ وَجَوَارِحَهُمْ وَفَرَّغُوا لَهُ قُلُوبَهُمْ فَقَصُرَتْ عِنْدَهُمُ الْآمَالُ وَقَرُبَتْ مِنْهُمُ الْآجَالُ وَتَبَاعَدَتْ أَسْبَابُ وَسَاوِسِ الدُّنْيَا مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَعَظُمَ شُغْلُ الْآخِرَةِ فِي صُدُورِهِمْ، وَنَظَرُوا إِلَى الْآخِرَةِ بِعَيْنٍ بَصِيرَةٍ وَتَقَرَّبُوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَعْمَالٍ زَاكِيَةٍ، وَاسْتَقَامَتْ لَهُمُ السِّيرَةُ حَتَّى وَجَدُوا حَلَاوَةَ الطَّاعَةِ فِي الدُّنْيَا حِينَ سَاعَدَتْهُمُ الزِّيَادَةُ فِي التَّقْوَى فَقَرَّتْ بِالْخَوْفِ أَعْيُنَهُمْ، وَتَنَعَّمُوا بِالْحُزْنِ فِي عِبَادَتِهِمْ حَتَّى نَحَلَتْ أَجْسَامُهُمْ وَبَلِيَتْ أَجْسَادُهُمْ وَيَبِسَتْ عَلَى عِظَامِهِمْ جُلُودُهُمْ، وَقَلَّ مَعَ الْمَخْلُوقِينَ كَلَامُهُمْ، وَتَلَذَّذُوا بِمُنَاجَاةِ خَالِقِهِمْ، فَقُلُوبُهُمْ بِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ مُتَعَلِّقَةٌ، وَذِكْرُهُمْ بَأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ مُقْبِلَةٌ مُدْبِرَةٌ، أَبْدَانُهُمْ بَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ عَارِيَةٌ فَعَمُوا عَنِ الدُّنْيَا وَصَمُّوا عَنْهَا وَعَنْ أَهْلِهَا وَمَا فِيهَا، وَضَحَ لَهُمْ أَمْرُ الْآخِرَةِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا، فَتَخَلَّصَ إِلَى ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لِتَذِلَّ لَهُمُ الْأَنْفُسُ وَتَخْضَعَ لَهُمُ الْجَوَارِحُ، فَاجْتَهَدَ قَوْمٌ فِي الصَّلَاةِ لِدَوَامِ الْخُشُوعِ عَلَيْهِمْ، وَاجْتَهَدَ قَوْمٌ فِي الصَّوْمِ لِهُدُوِّ الْجَوَارِحِ عَنْهُمْ، وَاجْتَهَدَ قَوْمٌ فِي تَرْكِ الشَّهَوَاتِ وَطَلَبِ الْفَوْزِ وَذَلِكَ مِنْ رِيَاضَةِ الْأَنْفُسِ حَتَّى أَفْضَوْا بِالْأَنْفُسِ إِلَى الْجُوعِ وَنُحُولِ الْجِسْمِ»

الصفحة 284