كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (اسم الجزء: 9)

حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ يُوسُفَ، يَقُولُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَنْطَاكِيُّ: " §اسْتَكْثِرْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِنَفْسِكَ قَلِيلَ الرِّزْقِ تَخَلُّصًا إِلَى الشُّكْرِ وَاسْتَقْلِلْ مِنْ نَفْسِكَ لِلَّهِ كَثِيرَ الطَّاعَةِ ازْدِرَاءً عَلَى النَّفْسِ وَتَعَرُّضًا لِلْعَفْوِ، وَارْفَعْ عَنْكَ حَاضِرًا لَيْسَ بِحَاضِرِ الْعِلْمِ بِخَالِصِ الْعَمَلِ، وَتَحَرَّزْ فِي خَالِصِ الْعَمَلِ مِنْ عَظِيمِ الْغَفْلَةِ بِشِدَّةِ التَّيَقُّظِ، وَاسْتَجْلِبْ -[288]- شِدَّةَ التَّيَقُّظِ بِشِدَّةِ الْخَوْفِ، وَاحْذَرْ خَفِيَّ التَّزَيُّنِ بِحَاضِرِ الْحَيَاءِ، وَاتَّقِ مُجَازَفَةَ الْهَوَى بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ، وَقِفْ عِنْدَ غَلَبَتِهِ عَلَيْكَ لِاسْتِرْشَادِ الْعِلْمِ وَاسْتَبْقِ خَالِصَ الْأَعْمَالِ لِيَوْمِ الْجَزَاءِ وَانْزِلْ بِسَاحَةِ الْقَنَاعَةِ بِاتِّقَاءِ الْحِرْصِ، وَارْفَعْ عَظِيمَ الْحِرْصِ بِإِيثَارِ الْقَنَاعَةِ، وَاسْتَجْلِبْ حَلَاوَةَ الزُّهْدِ بِقِصَرِ الْأَمَلِ، وَاقْطَعْ أَسْبَابَ الطَّمَعِ بِصِحَّةِ الْإِيَاسِ، وَتَخَلَّصْ إِلَى رَاحَةِ الْقَلْبِ بِصِحَّةِ التَّفْوِيضِ، وَأَطْفِئْ نَارَ الطَّمَعِ بِبَرْدِ الْإِيَاسِ، وَسُدَّ سَبِيلَ الْعُجْبِ بِمَعْرِفَةِ النَّفْسِ، وَاطْلُبْ رَاحَةَ الْبَدَنِ بِإِجْمَامِ الْقَلْبِ، وَتَخَلَّصْ إِلَى إِجْمَامِ الْقَلْبِ بِقِلَّةِ الْخُلَطَاءِ وَتَرْكِ الطَّلَبِ، وَتَعَرَّضْ لِرِقَّةِ الْقَلْبِ بِدَوَامِ مُجَالَسَةِ أَهْلِ الذِّكْرِ مِنْ أَهْلِ الْعُقُولِ، وَاسْتَجْلِبْ نُورَ الْقَلْبِ بِدَوَامِ الْحُزْنِ، وَاسْتَفْتِحْ بَابَ الْحُزْنِ بِطُولِ الْفِكْرِ، وَالْتَمِسْ وُجُودَ الْفِكْرِ فِي مَوَاطِنِ الْخَلَوَاتِ وَتَحَرَّزْ مِنْ إِبْلِيسَ بِالْخَوْفِ الصَّادِقِ بِمُخَالَفَةِ هَوَاكَ، وَإِيَّاكَ وَالرَّجَاءَ الْكَاذِبَ فَإِنَّهُ يُوقِعُكَ فِي الْخَوْفِ الْكَاذِبِ، وَامْزُجِ الرَّجَاءَ الصَّادِقَ بِالْخَوْفِ الصَّادِقِ، وَتَزَيَّنْ لِلَّهِ بِالصِّدْقِ فِي الْأَعْمَالِ، وَتَحَبَّبْ إِلَيْهِ بِتَعْجِيلِ الِانْتِقَالِ، وَإِيَّاكَ وَالتَّسْوِيفَ فَإِنَّهُ بَحْرٌ يَغْرَقَ فِيهِ الْهَلْكَى، وَإِيَّاكَ وَالْغَفْلَةَ فَمِنْهَا سَوَّادُ الْقَلْبِ، وَإِيَّاكَ وَالتَّوَانِيَ فِيمَا لَا عُذْرَ فِيهِ فَإِلَيْهِ مَلْجَأُ النَّادِمِينَ، وَاسْتَرْجِعْ بِسَالِفِ الذُّنُوبِ شِدَّةَ النَّدَمِ وَكَثْرَةَ الِاسْتِغْفَارِ، وَتَعَرَّضْ لِعَفْوِ اللَّهِ بِحُسْنِ الْمُرَاجَعَةِ وَاسْتَعِنْ عَلَى حُسْنِ الْمُرَاجَعَةِ بِخَالِصِ الدُّعَاءِ وَالْمُنَاجَاةِ، وَتَخَلَّصْ إِلَى عَظِيمِ الشُّكْرِ بِاسْتِكْثَارِ قَلِيلِ الرِّزْقِ وَاسْتِقْلَالِ كَثِيرِ الطَّاعَةِ، وَاسْتَجْلِبِ زِيَادَةَ النِّعَمِ بِعَظِيمِ الشُّكْرِ، وَاسْتَدِمْ عَظِيمَ الشُّكْرِ بِخَوْفِ زَوَالِ النِّعَمِ، وَاطْلُبْ بَهَاءَ الْعِزَّ بِإِمَاتَةِ الطَّمَعِ، وَادْفَعْ ذُلَّ الطَّمَعِ بِعِزِّ الْإِيَاسِ، وَاسْتَجْلِبْ عِزَّ الْإِيَاسِ بِبُعْدِ الْهِمَّةِ، وَاسْتَعِنْ عَلَى بُعْدِ الْهِمَّةِ بِقِصَرِ الْأَمَلِ، وَبَادِرْ بِانْتِهَازِ الْبُغْيَةِ عِنْدَ إِمْكَانِ الْفُرْصَةِ بِخَوْفِ فَوَاتِ الْإِمْكَانِ، وَلَا إِمْكَانَ كَالْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ مَعَ صِحَّةِ الْأَبْدَانِ، وَأُحَذِّرُكَ سَوْفَ فَإِنَّ دُونَهُ مَا يَقْطَعُ بِكَ عَنْ بُغْيَتِكَ، وَإِيَّاكَ وَالثِّقَةَ بِغَيْرِ الْمَأْمُونِ فَإِنَّ لِلشَّرِّ ضَرَاوَةً كَضَرَاوَةِ الْغِذَاءِ، وَلَا عَمَلَ كَطَلَبِ السَّلَامَةِ، وَلَا سَلَامَةَ كَسَلَامَةِ الْقَلْبِ، وَلَا عَقْلَ كَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَلَا عِزَّ كَعِزِّ الْيَأْسِ، وَلَا خَوْفَ كَخَوْفٍ حَاجِزٍ وَلَا رَجَاءَ كَرَجَاءٍ مُعِينٍ، وَلَا فَقْرٍ كَفَقْرِ الْقَلْبِ، وَلَا غِنًى كَغِنَى النَّفْسِ، وَلَا قُوَّةَ كَغَلَبَةِ -[289]- الْهَوَى، وَلَا نُورَ كَنُورِ الْيَقِينِ، وَلَا يَقِينَ كَاسْتِصْغَارِكَ الدُّنْيَا، وَلَا مَعْرِفَةَ كَمَعْرِفَةِ نَفْسِكَ، وَلَا نِعْمَةَ كَالْعَافِيَةِ، وَلَا عَافِيَةَ كَمُسَاعَدَةِ التَّوْفِيقِ، وَلَا شَرَفَ كَبُعْدِ الْهِمَّةِ، وَلَا زُهْدَ كَقِصَرِ الْأَمَلِ، وَلَا حِرْصَ كَالْمُنَافَسَةِ فِي الدَّرَجَاتِ، وَلَا عَدْلَ كَالْإِنْصَافِ، وَلَا تَعَدِّيَ كَالْجَوْرِ، وَلَا جَوْرَ كَمُوَافَقَةِ الْهَوَى، وَلَا طَاعَةَ كَأَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَلَا مُصِيبَةَ كَعَدَمِ الْعَقْلِ، وَلَا عَدَمَ عَقْلٍ كَقِلَّةِ الْيَقِينِ، وَلَا قِلَّةَ يَقِينٍ كَفَقْدِكَ الْخَوْفَ، وَلَا فَقْدَ خَوْفٍ كَقِلَّةِ الْحُزْنِ عَلَى فَقْدِكَ الْخَوْفَ، وَلَا مُصِيبَةَ كَاسْتِهَانَتِكَ بِذَنْبِكَ وَرِضَاكَ بِالْحَالَةِ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا، وَلَا مُشَاهَدَةَ كَالْيَقِينِ، وَلَا فَضِيلَةَ كَالْجِهَادِ، وَلَا جِهَادَ كَمُجَاهَدَةِ هَذِهِ النَّفْسِ، وَلَا غَلَبَةَ كَغَلَبَةِ الْهَوَى وَلَا قُوَّةَ كَرَدِّ الْغَضَبِ وَلَا مَعْصِيَةَ كَحُبِّ الْبَقَاءِ، وَإِنَّ حُبَّ الدُّنْيَا لِمَنْ أَحَبَّ الْبَقَاءَ وَلَا ذُلَّ كَالطَّمَعِ. وَإِيَّاكَ وَالتَّفْرِيطَ عِنْدَ إِمْكَانِ الْفُرْصَةِ فَإِنَّهُ مَيْدَانٌ يَجْرِي لِأَهْلِهِ بِالْحَسَرَاتِ، وَالْعُقُولُ مَعَادِنُ لِلرَّأْيِ، وَالْعِلْمُ دَلَالَةٌ عَلَى اخْتِيَارِ عَوَاقِبِ الْأُمُورِ بِإِقْبَالِ مَوَارِدِهَا وَتَصَرُّفِ مَصَادِرِهَا، وَالتَّزَيُّنُ اسْمٌ لِمَعَانٍ ثَلَاثَةٍ: فَمُتَزَيِّنٌ بِعِلْمٍ وَمُتَزَيِّنٌ بِجَهْلٍ، وَمُتَزَيِّنٌ بِتَرْكِ التَّزَيُّنِ وَهُوَ أَعْمَقُهَا وَأَحَبُّهَا إِلَى إِبْلِيسَ مِنَ الْعَالِمِ "

الصفحة 287