كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (اسم الجزء: 9)

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ، ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ، ثنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْطَاكِيُّ، قَالَ: كَتَبَ أَخٌ لِعُبَيْدِ اللَّهِ إِلَى يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ: أَمَّا بَعْدُ يَا أَخِي كَيْفَ أَنْتَ وَكَيْفَ حَالُكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ يُونُسُ: «§سَأَلْتَنِي عَنْ حَالِي وَأُخْبِرُكَ أَنَّ نَفْسِيَ قَدْ ذَلَّتْ لِي بِصَوْمِ يَوْمٍ بَعِيدِ الطَّرَفَيْنِ شَدِيدِ الْحَرِّ وَلَنْ تَذِلَّ لِي بِتَرْكِ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ»
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَائِلَةَ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْطَاكِيَّ، يَقُولُ: «§إِذَا صَارَتِ الَعَامِلَةُ إِلَى الْقَلْبِ ارْتَاحَتِ الْجَوَارِحُ»
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمُكْتِبُ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ، ثنا أَبُو حَاتِمٍ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ عَاصِمٍ الْأَنْطَاكِيَّ يَقُولُ: «§مَا مِنْ عَافِيَةٍ إِلَّا وَقَدْ تَقَدَّمَهَا عَفْوٌ لَوْلَا الْعَفْوُ لَجَاءَتِ الْبَلِيَّةُ»
حَدَّثَنَا أَبِي وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ، قَالَا: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْأَنْطَاكِيَّ، يَقُولُ: " إِنَّهُ §مَنْ عَرَفَ الْمَعْبُودَ بِخَالِصِ التَّوْحِيدِ وَعَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ وَالْمُلْكِ وَالْجَبَرُوتِ وَالْعَدْلِ وَتَظَاهُرِ النِّعَمِ وَجَمِيلِ الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ وَكَرَمِ الصَّفْحِ وَالتَّجَاوُزِ وَالْمَنِّ وَالْعَطَاءِ وَجَمِيلِ أَفْعَالِهِ فعَبَدَهُ دُونَ الْمَخْلُوقِينَ وَقَنَعَ بِكِفَايَتِهِ وَرَضِيَ مِنْ عَظِيمِ عِقَابِهِ وَأَلِيمِ عَذَابِهِ إِمَّا بِسَبِيلِ رَجَاءٍ لِعَظِيمِ ثَوَابِهِ وَجَزِيلِ جَزَائِهِ، وَأَمَّا عَلَى سَبِيلِ شُكْرِ مُكَافَأَةٍ لِنِعَمِ جَنَابِهِ وَكَرِيمِ مَآبِهِ، وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ مَحَبَّةٍ وَشَوْقٍ إِلَيْهِ لِحُسْنِ أَيَادِيهِ وَجَمِيلِ إِحْسَانِهِ لِتَوَاتُرِ نَعْمَائِهِ وَعَظِيمِ عَطَائِهِ. وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ حُبٍّ مِنْ جَمِيلِ سَتْرِهِ وَكَرِيمِ صَفْحِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ مَنْ يَمْلِكُ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ وَالْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ وَالنُّشُورَ بِأَنْ تَخْرُجَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَإِخْلَاصُ تَوْحِيدِهِ مِنْ صِحَّةِ التَّرْكِيبِ وَحُجَّةِ -[294]- الْمَعْقُودِ وَفَضِيلَةِ الْإِلْهَامِ فِي الْمَلَكُوتِ وَدِلَالَةِ الْعِلْمِ وَمُسَاعَدَةِ التَّوْفِيقِ وَعِنَايَةِ الْعَبْدِ بِنَفْسِهِ وَالتَّدْبِيرِ لِلِاخْتِبَارِ وَالْفِكْرِ فِي الِاعْتِبَارِ وَطَنِ الْأَذْكَارِ وَغَائِصِ الْفَهْمِ. وَنَفَاذُ مَعْرِفَةِ الْإِلْهَامِ فِي الْمَلَكُوتِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّنْزِيلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} فَفِيمَا ذَكَرْنَا آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ مِنَ الْعُقَلَاءِ، فَقَدْ نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى أُولِي الْأَلْبَابِ لِلتَّدْبِيرِ وَالِاعْتِبَارِ بِمَا ظَهَرَ مِنْ شَوَاهِدِ آثَارِ قُدْرَتِهِ لِيَسْتَدِلُّوا بِهِ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَخَالِصِ تَوْحِيدِهِ وَلُطْفِ صُنْعِهِ بِأَنَّهُ بَارِئُ الْبَرَايَا. وَأَمَّا مَا نُدِبَ إِلَيْهِ مِنَ الْفِكْرِ مِنْ بَعْدِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20] قَالَ: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] فَالْأَحْوَالُ ثَلَاثَةٌ: حَالَةٌ مَحْمُودَةٌ وَحَالَتَانِ مَذْمُومَتَانِ: الْحَالَةُ الْمَحْمُودَةُ مَا دَخَلَ إِلَيْهِ اللُّطْفُ وَدَلَّكَ عَلَيْهِ الْعَقْلُ وَالْعِلْمُ. وَالْحَالَتَانِ المَذْمُومَتَانِ: الْغَفْلَةُ وَالْأَمْنُ. وَالحَوَاسُّ خَمْسٌ وَسَادِسُهَا الْمَلِكُ وَهُوَ الْقَلْبُ. فَالحَوَاسُّ الْمُؤَدِّيَةُ لِلْأَخْبَارِ فَعَلَى قَدْرِ مَا أَدَّتِ الحَوَاسُّ مِنَ الْأَخْبَارِ يَكُونُ تَدْبِيرُ الْمَلِكِ، وَمَنْ خَافَ ضَرَرَ أَحْوَالِ الْغَفْلَةِ مِنْ قَلْبِهِ أَكْثَرَ التَّفَقُّدَ مِنْ قَلْبِهِ، وَمَنْ عَرَضَ أَحْوَالَهُ عَلَى عَقْلِهِ لَمْ تَكْذِبْهُ صِحَّةُ النَّظَرِ، وَمَنْ قَدَّمَ النَّظَرَ أَمَامَ الْبَصَرِ أَفَادَهُ النَّظَرُ بَصَرًا. قُلْتُ: وَمَا مَعْنَى النَّظَرِ؟ قَالَ: تَدَبُّرُ الْخَيْرِ إِذَا وَرَدَ وَمَعْرِفَتُهُ إِذَا صَدَرَ. قُلْتُ: فَإِذَا أَفَادَهُ النَّظَرُ بَصَرًا يَكُونُ مَاذَا؟ قَالَ: يُصْبِحُ بِالنَّظَرِ بَصِيرًا فَيُوضِّحُ لَهُ الْبَصَرُ الْيَقِينَ بمَحْمُودِ الْعَوَاقِبِ فَيَحْتَمِلُ لِذَلِكَ مَئُونَةَ الْعَمَلِ قَبْلَ ابْتِغَاءِ الثَّوَابِ. وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يُوقِفَ نَفْسَهُ عَلَى مَا يُؤَمِّلُ وَيَسْتَجِرَّهَا فِي يَوْمِهَا وَيُبَصِّرُهَا مَا يَرْتَجِيهِ فِي غَدِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تُلْقِي إِلَيْهِ نَفْسُهُ مَعَاذِيرَ الْعَجْزِ عِنْدَمَا صَدَقَهَا الْعَبْدُ. فَالْحَلِيمُ لَا يُخْدَعُ، وَالْعَاقِلُ لَا يَغُشُّ نَفْسَهُ، وَمَنْ فَكَّرَ أُلْهِمَ، وَمَنْ أُلْهِمَ اسْتَحْكَمَ الْأُمُورَ وَالْعَقْلَ، وَفِي الْعِنَايَةِ هَمٌّ وَفِي الْفَرَحِ تَحْصِيلُ الْأَعْمَالِ وَسُرُورُ الْأَبْرَارِ، وَلِكُلِّ شَرٍّ مَظَانٌّ يَعْقُبُ فِيهِ السُّرُورُ عِنْدَهُ أَوِ الْهُمُومُ، بِإِغْفَالِ الْحَذَرِ تُصَابُ الْمَقَاتِلُ، وَمَنْ أَمْكَنَ عَدُوَّهُ بِسِلَاحِ نَفْسِهِ قُتِلَ، فَفُطِرَتِ النُّفُوسُ عَلَى قَبُولِ الْحَقِّ فَعَارَضَهَا الْهَوَى فَاسْتَمَالَهَا فَآثَرَتِ الْحَقَّ بِالدَّعْوى وَآثَرَتِ أَعْمَالَهَا بِالْهَوَى. وَلَا يُسْتَحَقُّ الْمَأْمُولُ بِالشَّكِّ، وَإِنَّمَا يُوصِلُ إِلَى فَهْمِ الْمَعْرِفَةِ أَجْنَاسُهَا، كَمَا -[295]- يَصِلُ التَّاجِرُ إِلَى أَرْبَاحِ الثِّيَابِ بِمَعْرِفَةِ أَصْنَافِهَا، وَبِقُوَّةِ الْعَزْمِ يُقْهَرُ الْهَوَى، وَلَا يَصِلُ إِلَى الشَّيْءِ بِضِدِّهِ وَلَا يَكُونُ مَنْ تَرَكَ الشَّيْءَ أَخَذَهُ عَلَى قَدْرِ الْيَقِينِ يَتَعَطَّلُ وَيَضْمَحِلُّ الشَّكُّ، وَبِأَدْنَى الشَّكِّ يَضْمَحِلُّ الْيَقِينُ، وَاسْتَقَرَّ مَنَارُ الْهُدَى بِالْأَنْبِيَاءِ، وَقَامَتْ حِجَجُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأُوِلِي الْعُقُولِ، فَآخِذٌ بِحَظِّهِ وَمُضَيِّعٌ لِنَفْسِهِ، فَلَا حَمْدَ لِآخِذٍ وَلَا عُذْرَ لِتَارِكٍ، فَحُجَّةُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ وَأَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كِتَابُهُ "

الصفحة 293