كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (اسم الجزء: 9)

حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا أَحْمَدُ، ثنا سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى الزُّبَيْدِيُّ، قَالَ: لَمَّا حُمِلَ ذُو النُّونِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى جَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلِ أَنْزَلَهُ فِي بَعْضِ الدُّورِ وَأَوْصَى بِهِ زُرَافَةَ. وَقَالَ: أَنَا إِذَا رَجَعْتُ غَدًا مِنْ رُكُوبِي فَأَخْرِجْ إِلَيَّ هَذَا الرَّجُلَ، فَقَالَ لَهُ زُرَافَةُ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَوْصَانِي بِكَ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنَ الْغَدِ مِنَ الرُّكُوبِ قَالَ لَهُ: انْظُرْ بِأَنْ تَسْتَقْبِلَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالسَّلَامِ، فَلَمَّا أَخْرَجَهُ إِلَيْهِ قَالَ لَهُ: سَلِّمْ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ ذُو النُّونِ: «لَيْسَ هَكَذَا جَاءَنَا الْخَبَرُ، إِنَّمَا جَاءَنَا فِي الْخَبَرِ أَنَّ الرَّاكِبَ يُسَلِّمُ عَلَى الرَّاجِلِ». قَالَ: فَتَبَسَّمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَبَدَأَهُ بِالسَّلَامِ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ زَاهِدُ أَهْلِ مِصْرَ؟ قَالَ: «كَذَا يَقُولُونَ». فَقَالَ لَهُ زُرَافَةُ: فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ كَلَامِ الزُّهَّادِ. قَالَ: فَأَطْرَقَ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ: " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ §الْجَهْلَ عُلِّقَ بِنُكْتَةِ أَهْلِ الْفَهْمِ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ للهِ عِبَادًا عَبُدُوهُ بِخَالِصٍ مِنَ السِّرِّ فَشَرَّفَهُمْ بِخَالِصٍ مِنْ شُكْرِهِ فَهُمُ الَّذِينَ تَمُرُّ صُحُفُهُمْ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فُرَّغًا حَتَّى إِذَا صَارَتْ إِلَيْهِ مَلَأَهَا مِنْ سِرِّ مَا أَسَرُّوا إِلَيْهِ، أَبْدَانُهُمْ دُنْيَوِيَّةٌ وَقُلُوبُهُمْ سَمَاوِيَّةٌ قَدِ احْتَوَتْ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ كَأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ بَيْنَ تِلْكَ الْفُرَجِ وَأَطْبَاقِ السَّمَاوَاتِ لَمْ يُخْبِتُوا فِي رَبِيعِ الْبَاطِلِ وَلَمْ يَرْتَعُوا فِي مَصِيفِ الْآثَامِ، وَنَزَّهُوا اللَّهَ أَنْ يَرَاهُمْ يَثِبُونَ عَلَى حَبَائِلِ مَكْرِهِ هَيْبَةً مِنْهُمْ لَهُ وَإِجْلَالًا أَنْ يَرَاهُمْ يَبِيعُونَ أَخْلَاقَهُمْ بِشَيْءٍ لَا يَدُومُ وَبِلَذَّةٍ مِنَ الْعَيْشِ مَزْهُودَةٍ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ أَجْلَسَهُمْ عَلَى كَرَاسِيِّ أَطْبَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْأَدْوَاءِ وَالنَّظَرِ فِي مَنَابِتِ الدَّوَاءِ، فَجَعَلَ تَلَامِذَتَهُمْ أَهْلَ الْوَرَعِ وَالْبَصَرِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ أَتَاكُمْ عَلِيلٌ مِنْ فَقْدِي فَدَاوُوهُ أَوْ مَرِيضٌ مِنْ تَذَكُّرِي فَأَدْنُوهُ، أَوْ نَاسٍ لِنِعْمَتِي فَذَكِّرُوهُ، أَوْ مُبَارِزٌ لِي بِالْمَعَاصِي فَنَابِذُوهُ، أَوْ مُحِبٌّ لِي فَوَاصِلُوهُ، يَا أَوْلِيَائِي فَلَكُمْ عَاتَبْتُ وَلَكُمْ خَاطَبْتُ وَمِنْكُمُ الْوَفَاءَ طَلَبْتُ، لَا أُحِبُّ اسْتِخْدَامَ -[338]- الْجَبَّارِينَ وَلَا تَوَلِّي الْمُتَكَبِّرِينَ وَلَا مُصَافَاةِ الْمُتْرَفِينَ، يَا أَوْلِيَائِي وَأَحْبَابِي جَزَائِي لَكُمْ أَفْضَلُ الْجَزَاءِ وَإِعْطَائِي لَكُمْ أَفْضَلُ الْعَطَاءِ وَبَذْلِي لَكُمْ أَفْضَلُ الْبَذْلِ، وَفَضْلِي عَلَيْكُمْ أَوْفَرُ الْفَضْلِ، وَمُعَامَلَتِي لَكُمْ أَوْفَى الْمُعَامَلَةِ وَمُطَالَبَتِي لَكُمْ أَشَدُّ مُطَالَبَةً، وَأَنَا مُقَدِّسُ الْقُلُوبِ وَأَنَا عَلَّامُ الْغُيُوبِ وَأَنَا عَالِمٌ بِمَجَالِ الْفِكْرِ وَوَسْوَاسِ الصُّدُورِ، مَنْ أَرَادَكُمْ قَصَمْتُهُ وَمَنْ عَادَاكُمْ أَهْلَكْتُهُ ". ثُمَّ قَالَ ذُو النُّونِ: «بِحُبِّكَ وَرَدَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى بَحْرِ مَحَبَّتِهِ فَاغْتَرَفَتْ مِنْهُ رِيًّا مِنَ الشَّرَابِ فَشَرِبَتْ مِنْهُ بِمَخَاطِرِ الْقُلُوبِ فَسَهُلَ عَلَيْهَا كُلُّ عَارِضٍ عَرَضَ لَهَا عِنْدَ لِقَاءِ الْمَحْبُوبِ، فَوَاصَلَتِ الْأَعْضَاءُ الْمُبَادَرَةَ وَأَلِفَتِ الْجَوَارِحُ تِلْكَ الرَّاحَةَ، فَهُمْ رَهَائِنُ أَشْغَالِ الْأَعْمَالِ، قَدِ اقْتَلَعَتْهُمُ الرَّاحَةُ بِمَا كُلِّفُوا أَخْذَهُ عَنِ الِانْبِسَاطِ بِمَا لَا يَضُرُّهُمْ تَرْكُهُ. قَدْ سَكَنَتْ لَهُمُ النُّفُوسُ وَرَضُوا بِالْفَقْرِ وَالْبُؤْسِ وَاطْمَأَنَّتْ جَوَارِحُهُمْ عَلَى الدُّءُوبِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْحَرَكَاتِ، وَظَعَنَتْ أَنْفُسُهُمْ عَنِ الْمَطَاعِمِ وَالشَّهَوَاتِ، فَتَوَالَهُوا بِالْفِكْرَةِ، وَاعْتَقَدُوا بِالصَّبْرِ، وَأَخَذُوا بِالرِّضَا وَلَهَوْا عَنِ الدُّنْيَا، وَأَقَرُّوا بِالْعُبُودِيَّةِ لِلْمَلِكِ الدَّيَّانِ وَرَضُوا بِهِ دُونَ كُلِّ رَقِيبٍ وَحَمِيمٍ فَخَشَعُوا لِهَيْبَتِهِ، وَأَقَرُّوا لَهُ بِالتَّقْصِيرِ وَأَذْعَنُوا لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَلَمْ يُبَالُوا بِالْقِلَّةِ إِذَا خَلَّوْا بِأَقَلِّ بُكَاءٍ، وَإِذَا عُومِلُوا فَإِخْوانُ حَيَاءٍ، وَإِذَا كُلِّمُوا فَحُكَمَاءُ، وَإِذَا سُئِلُوا فَعُلَمَاءُ، وَإِذَا جُهِلَ عَلَيْهِمْ فَحُلَمَاءُ، فَلَوْ قَدْ رَأَيْتَهُمْ لَقُلْتَ عَذَارَى فِي الْخُدُورِ، وَقَدْ تَحَرَّكَتْ لَهُمُ الْمَحَبَّةُ فِي الصُّدُورِ بِحُسْنِ تِلْكَ الصُّوَرِ الَّتِي قَدْ عَلَاها النُّورُ، وَإِذَا كَشَفْتَ عَنِ الْقُلُوبِ رَأَيْتَ قُلُوبًا لَيِّنَةً مُنْكَسِرَةً، وَبِالذِّكْرِ نَائِرَةً وَبِمُحَادَثَةِ الْمَحْبُوبِ عَامِرَةً، لَا يَشْغَلُونَ قُلُوبَهُمْ بِغَيْرِهِ، وَلَا يَمِيلُونَ إِلَى مَا دُونَهُ، قَدْ مَلَأَتْ مَحَبَّةُ اللَّهِ صُدُورَهُمْ فَلَيْسَ يَجِدُونَ لِكَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ شَهْوَةً وَلَا بِغَيْرِ الْأَنِيسِ وَمُحَادَثَةِ اللَّهِ لَذَّةً، إِخْوَانُ صِدْقٍ وَأَصْحَابُ حَيَاءٍ وَوَفَاءٍ وَتُقًى وَوَرِعٍ وَإِيمَانٍ وَمَعْرِفَةٍ وَدِينٍ، قَطَعُوا الْأَوْدِيَةَ بِغَيْرِ مَفَاوِزَ، وَاسْتَقَلُّوا الْوَفَاءَ بِالصَّبْرِ عَلَى لُزُومِ الْحَقِّ، وَاسْتَعَانُوا بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَأَوْضَحَ لَهُمُ الْحُجَّةَ، وَدَلَّهُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ فَرَفَضُوا طَرِيقَ الْمَهَالِكِ وَسَلَكُوا خَيْرَ الْمَسَالِكِ وَدَلَّهُمْ، أُولَئِكَ هُمُ الْأَوْتَادُ الَّذِينَ بِهِمْ تُوهَبُ الْمَوَاهِبُ، وَبِهِمْ تُفْتَحُ الْأَبْوَابُ، وَبِهِمْ يَنْشَأُ السَّحَابُ، وَبِهِمْ يُدْفَعُ العَذَابُ، وَبِهِمْ يَسْتَقِي الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ»

الصفحة 337